سيرياستيبس :
نما الاقتصاد المصري بنسبة مرتفعة خلال هذا العام”، و”تضاعفت
صادرات العراق هذا العام”، و”استقطبت سورية استثمارات بمليارات الدولارات
هذا العام”. مجرد أمثلة لعناوين نقرأها أو ما يشبهها بشكل دائم ومستمر، بل
تحضّر لها ندوات للإعلان ويبنى عليها، ربما، خطط واستراتيجيات، من دون
تقديم ما يؤكد صحة تلك البيانات، والتي تأتي غالباً لتسويق المسؤولين
والمؤسسات وإرسال، للمراقب ومن يهمهم الأمر، أننا بخير ونتطور. ولو أسقطنا
تلك الأرقام والتطورات، على الأسواق وحياة الشعوب، مثالاً واقعياً وبسيطاً،
فعلى الأرجح سنرى العكس، أو تبدلات لا ترقى لمستوى التصريحات في أحسن
الأحوال.
ولو وسعنا المثال لنرصد مستوى الدخول والرفاهية بالداخل أو
مديونية تلك الدول بالخارج، فسنحار بين المواءمة لتنمية وتطور نظري، تقال
على الورق والمنابر، مع واقع مراوح إن لم نقل متخلف وينذر بالكوارث.
والمدهش ربما، بزعماء بعض الدول، ممن تسعى للترويج والتوسع
الشكلي والفتوحات القولية، أنهم يرددون ما يقال لهم من خطط وأرقام
وإنجازات، ويتبنونه بمحافل محلية ودولية، من دون التأكد من صحته أو التفكّر
بعقابيله التي قد تنعكس إدانات عليهم وتعيق برامج ومساعدات خارجية. هذا إن
لم نسئ الظن ونتهم الزعماء بالتوصية لتأليف تلك الإنجازات ليبرروا من
خلالها إنفاقاً أو يعززوا وجودهم ويكرسوا بقاءهم كمطورين ومخلصين. قلما
سمعنا مسؤولاً كبيراً بالمنطقة، من عيار رئيس أو أقل، طابق بين ما يقدم أو
يقال مع الواقع، أو توعّد وحاسب هؤلاء الغائيين القوالين، بل للأسف، نرى
ونسمع عن توريط القيادات، كما حدث، كمثال، في سورية حين أعلن الرئيس أحمد
الشرع عن جذب سورية نحو 30 مليار دولار استثمارات، لتعود الحكومة بعد ذاك،
للترقيع وتحاول التملص عبر جدلية التفريق بين الاتفاق على جذب استثمارات
وتوطينها، وأن الأموال ستأتي بعد رفع العقوبات، وتزيد من جرعة الآمال
والنسب والإنجازات.
قصارى القول: فعلها الرئيس الصيني، شي جين بينغ بعد تضخيم
أرقام النمو وإعلان مشاريع بلا جدوى متوعداً محاسبة المسؤولين عن التوسع
الشكلي، بعد أن أكد أولوية الجودة على الكم في خطط التنمية، ووجوب أن تستند
جميع الخطط إلى الوقائع، وأن تستهدف نمواً حقيقياً ومتيناً من دون مبالغة،
وأن تعزز تنمية عالية الجودة ومستدامة. وفي التفاصيل، انتقد الرئيس الصيني
بشدة أرقام النمو المبالغ فيها، متعهداً التصدي لملاحقة مشاريع وصفها
بالمتهورة ولا هدف لها سوى إظهار نتائج شكلية. بحسب ما نشرت صحيفة الشعب،
الناطقة باسم الحزب الشيوعي يوم الأحد 15 ديسمبر/كانون الاول الحالي،
وأعادت النشر وكالات ووسائل إعلامية عدة، بعد أن وجدت بكلام شي مادة دسمة
تخرج عن المألوف.
الرئيس الصيني، وخلال مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي بالعاصمة
بكين الأسبوع الماضي، دعا لمحاسبة من يتصرفون بتهور وعدوانية من دون مراعاة
الواقع، أو يفرضون مطالب مفرطة، أو يوظفون الموارد من دون دراسة متأنية،
محاسبة صارمة، وأكد أهمية جودة المكاسب الاقتصادية، لأن تقييم المسؤولين
يجب ألا يقتصر على معدل النمو الاقتصادي فحسب، بل ينبغي أن يشمل أيضاً
إنجازاتهم في ضمان رفاهية المواطنين والحفاظ على الاستقرار. فإن كانت الصين
التي يقترب ناتجها الإجمالي من 19 تريليون دولار وفائض التجارة للعام
الجاري، تعدى تريليون دولار، ونسبة النمو لا تتراجع، بأسوأ ظروف الاستهداف
الأميركي والمحاصرة، عن 5% بل تقدم للعالم جديداً كل صباح، إن على صعيد
الاختراعات أو التطوير وتحسين الاستثمار واستخدام الموارد.
إن كانت بكل هذا ويبدي رئيسها القلق حيال نسب وجودة النمو
الاقتصادي وطريقة استخدام الموارد المالية، ويعيب على التوسع غير المنظم
وإطلاق مشروعات غير ذات جدوى، فماذا يجب أن يقول رؤساء المنطقة. إن كانت
الصين التي زادت فيها الشركات الأجنبية المقامة فعلياً خلال النصف الأول من
هذا العام، 30 ألف شركة بقيمة استثمارية اقتربت من 60 مليار دولار، لكن
رئيسها يغضب ويتوعد بالمحاسبة، ويدعو لإيلاء الاهتمام للتراجع الأخير في
الاستثمار الرأسمالي، والتعامل معه بهدوء، فماذا يجب أن يقول زعماء الدول
التي تخطط لجذب الاستثمارات فتفاجأ بتراجع الأحلام أو تتغنى باستثمارات على
الورق، هذا إن لم نتماد ونفتح صفحات المناخ الاستثماري الطارد والمشاريع
التي تغادر بعد أن تشمّل المشاريع وتدرس البيئة والأسواق والقوانين.
وإن كانت الصين التي ضاعفت دخل الفرد وأدخلت شعبها بأطوار
الرفاهية عبر حصة الفرد 13121.68 دولاراً العام الماضي، وتستمر بمكافحة
البطالة التي تدنت عن 5% بعد إعلانها العام الجاري انتشال 800 مليون شخص من
الفقر، محققة هدف الحد من الفقر في جدول أعمال الأمم المتحدة لعام 2030
للتنمية المستدامة قبل الموعد المحدد، يعيب رئيسها على استفادة الشعب من
تطور البلاد ويوصي مهدداً، بأن تساهم الإنجازات في ضمان رفاهية المواطنين
والحفاظ على الاستقرار. فماذا يجب أن يقول رؤساء المنطقة للمسؤولين ومقدمي
الخطط الاقتصادية ونتاج النمو المزيفة، وهي عملياً، تغرق بالفقر وتعاني
البطالة ويتراجع نصيب الفرد فيها من الناتج الإجمالي؟ وإن كانت الصين التي
تشكل هاجساً تكنولوجياً للولايات المتحدة والعالم، يوصي رئيسها قبل إطلاق
مشاريع جديدة، اشتراط الذكاء الاصطناعي، والقدرات الحاسوبية، والمركبات
العاملة بالطاقة الجديدة، فماذا ينبغي أن يقال ببلدان المنطقة التي تقيم
حفلات إن جذبت صناعات ملوّثة أو تدعو لمهرجانات إن أتمتت عمل منشأة.
نهاية القول: أتينا بالتمثيل والمقارنة بين الصين ودول
المنطقة، رغم التفاوت الهائل والتباين السحيق بينهم اليوم. لكنهم كانوا
متماثلين حتى وقت قريب، فمن يذكر المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي
الصيني، عام 2017 بمناسبة مرور خمس سنوات على رئاسة شي للصين. يرى التطابق
مع ما يقام ويقال في مؤتمرات حضور رؤساء المنطقة اليوم، بل زاد الصينيون
وقتذاك، عن قصائد المديح والهتافات، بالبكاء والعويل والدعاء للمخلص الصيني
الجديد، بعد أن استنسخوا الطريقة العربية والروسية، بتجديد فترة الحكم ومن
ثم تعديل الدستور.
لكن الرئيس شي جين بينغ المتطلع لوضع بلاده على قمة العالم، بدّل
النهج والشعارات إلى واقع وتنافس وتحديات، بل يرد على مزيفي الأرقام والنسب
أو المداحين المطبلين، بما يشابه المقولة العربية “ويحك! أنا أقل مما تقول
وأكثر مما تضمر” في حين زعماء المنطقة ما يزالون يطربون للمديح ويصدقون
النسب والأرقام، رغم رؤيتهم العكس، على الواقع.
العربي الجديد - عدنان عبدالرزاق