دمشق - سيرياستيبس :
ضمن سلسلة منشورات نوعية يواظب الدكتور دريد درغام حاكم مصرف سورية سابقا والاستاذ الجامعي على تقديم تجارب عميقة للواقع النقدي والاقتصادي في قراءة عميقة للاسباب والنتائج والأهم استطاع تقديم الحلول ..
وكان لافتا تقديمه لسلسة مقالات ترصد تجارب عدد من الدول في العدالة الانتقالة ونجاحها في تحقيق المصالحة الوطنية بناء على فهم المصالح العليا للدولة
سيرياستيبس تنشر مجموعة التجارب التي استعرضها الدكتور دريد درغام
النموذج الرواندي للمصالحة والنمو والتداخلات العرقية والسياسية
المصالحة في رواندا: رواندا بلد مؤلف من (عرقين) قبيلتين رئيسيتين الهوتو والتوتسي. اعتمد الألمان وبعدهم البلجيك في حكمهم على أقلية التوتسي. بعد الاستقلال عام 1962 سيطر الهوتو على الحكم وتصاعدت التوترات القبلية إلى أن انفجرت عام 1994 حيث اغتيل الرئيس (من الهوتو). حينها كان عدد السكان حوالي 7 مليون منهما 85% من الهوتو. بدأت حملة إبادةٍ منظمةٍ من رجالات الدولة ومن العصابات التابعة لها ضد التوتسي. فتم خلال 100 يوم إبادة حوالي 700 ألف من التوتسي ولم يبق منهم سوى 230 ألف. وتم إبادة جميع الهوتو المعتدلين الذي اعترضوا على المجازر أو ساعدوا في إنقاذ جيرانهم التوتسي. في عام 1998 تم إعدام 22 ممن ثبت عليهم ارتكاب المجازر. بعد المجازر عانت رواندا من فوضى عارمة فأجبر الرئيس بيزيمونجو للاستقالة عام 2000. وانتقلت السلطة إلى زعيم الجبهة الوطنية الرواندية بول كاجامي مع أنه ينتمي إلى أقلية التوتسي التي أبيدت وكان قد شارك في الاقتتال الداخلي. واجهت الحكومة تحديًا كبيرًا بالتعامل مع العدد الكبير من المتهمين الذين احتجزوا في السجون لصعوبة البت بقضاياهم من قبل القضاء التقليدي. فابتكر الروانديون محاكم "الغاشاشا" عام 2001 لمعالجة جرائم الإبادة الجماعية وانتهت عام 2012 وأغلقت أبوابها بعد إدانة أكثر من 65,000 مجرماً من الهوتو والتوتسي ثبت عليهم ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية. ورغم وجود حكم الإعدام كان أقسى حكم هو السجن من 25 إلى 30 سنة بهدف العدالة ومنع تكرار الجرائم. ولتسريع الإجراءات تم اللجوء إلى طريقة مبتكرة في التعامل مع المجرمين حيث:
i. كانت القيادة السياسية والقضاء الأعلى مسؤولين عن تسمية مرشحين بناء على سمعتهم كأشخاص شرفاء يتمتعون بثقة المجتمع كي يصبحوا قضاة في الغاشاشا. أما الاختيار النهائي للقضاة فكان من قبل المجتمع المحلي أو مجلس مختص وليس من الحكومة، كان الهدف ضمان عدالة واستقلالية القضاء. وكان يراعى قدر الإمكان أن يكونوا مزيجاً من الهوتو والتوتسي لضمان السلم المجتمعي.
ii. كان عدد القضاة وسطياً بين 9 و25 حسب الحاجة وعدد القضايا المعروضة. وكان النساء يشكلون 30-40% من عدد القضاة. وتم تعيين المحاكم في القرى والمناطق التي تمت فيها المجازر. وحسب الحاجة كان يتم تعيين قضاة من الأشخاص الشرفاء من القرى المجاورة.
iii. لم تبنى المحاكم على فكرة العقاب، إنما الاعتراف بالخطأ والتكفير عنه بخدمة المجتمع، وسن قوانين صارمة تعتبر الخطاب العنصري جريمة. وفرض برامج خاصة لإعادة تأهيل المتورطين في الإبادة. وأعادت الحكومة تقسيم المحافظات، حتى تعزز قيم المواطنة، وتلغي فكرة القبيلة.
iv. تم تدريب القضاة على إدارة المحاكمات وكيفية التعامل مع الشهادات والأدلة وتم تزويدهم بإرشادات تضمن نزاهة الأحكام والعدالة ومن هذه الارشادات:
1. شفافية المحاكمات في جميع إجراءاتها بما فيها الاستماع إلى الشهود والأدلة
2. المشاركة المجتمعية حيث يتوجب على المحكمة دعوة جميع أفراد المجتمع الأهلي للحضور والمشاركة
3. تهدف المحاكم لتحقيق العدالة والمصالحة بين المتخاصمين وتحقيق السلم الأهلي
4. تدريب القضاة المحليين على إدارة المحاكم والتعامل مع الشهود والأدلة
5. ضمان تنظيم المحاكمات بفاعلية تضمن تحديد المهام والمسؤوليات لكل فرد
v. كانت المحاكم مفتوحة للجميع بهدف معالجة جرائم الإبادة المرتكبة من كلا الجانبين. وكانت المحاكم تعتمد على الثقافة التقليدية للمصالحة، حيث يجلس الطرفان المتنازعان على العشب ويتم الاستماع إلى الشهود وتصدر الأحكام بناءً على تفاهم المجتمع.
vi. لعبت الشرطة دورًا مهمًا لإحضار المتهمين والتعامل معهم في تنفيذ أوامر الاعتقال والأحكام والحفاظ على النظام والأمن خلال جلسات المحاكمة.
وبغض النظر عن بعض السلبيات أو الاتهامات تجاه كاغامي حول انفراده بالسلطة، فَهِم الروانديون من خلاله أن التفرقة والعنصرية والصراع ستزيد من الحروب والتقهقر، فصدر دستور يلغي الفوارق العرقية واستثمر كاغامي في العنصر البشري وخاصة النساء اللواتي أصبحن المعيلات باعتبار أن معظم ضحايا المجازر كانوا من الرجال، ومن بقي منهم لاذ بالفرار خارج البلاد وركز على التعليم الذي زادت نسبته من الموازنة لتصل إلى 25% وتحول بالتعليم من الفرنسية إلى الإنكليزية وأصبح التعليم المجاني 12 عاماً. وأصبحت الأولوية للمدرسين الجيدين وليس الأكثر قدماً. وركز على الزراعة والتعاونيات وتوفير قروض ميسرة شجعت على زراعة وتصدير الشاي والبن. فارتفع إنتاج القهوة خلال سنوات قليلة من 30 ألف طن إلى 15 مليون طن. وبقدوم مليون سائح سنويا أصبحت السياحة الطبيعية ثاني مصدر للدخل.