سيرياستيبس :
بعدما أقر المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر "الكابينت" خطة السيطرة الكاملة على مدينة غزة، كثف الجيش ضرباته الجوية الليلية على القطاع، وسقط جراء القصف العنيف عدد كبير من الضحايا وصلوا إلى مغاسل الموتى القليلة المنهارة بسبب الحرب الطويلة.
يفتش إبراهيم بين رفوف غرفة تغسيل الموتى عن قطعة كفن ليبدأ عمله في تجهيز بعض ضحايا حرب غزة للدفن، وبعد بحث طويل وجد كيس نايلون طويلاً مكتوباً عليه "كفن أبيض فاخر"، زم شفتيه وفتح باب المغسلة فوجد نحو 20 ضحية سقطوا جميعاً في ليلة غزة الدامية، كان حائراً ولا يعرف كيف يتصرف مع كل هذا العدد من الضحايا.
بعدما أقر المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر "الكابينت" خطة السيطرة الكاملة على مدينة غزة، كثف الجيش ضرباته الجوية الليلية على القطاع، وسقط جراء القصف العنيف عدد كبير من الضحايا وصلوا إلى مغاسل الموتى القليلة المنهارة بسبب الحرب الطويلة.
آخر الأكفان
كان "الكفن الأبيض الفاخر" آخر كيس موتى في مغاسل القطاع، ودخل إلى غزة قبل عام في شاحنات المساعدات الإنسانية، يقول المغسل إبراهيم "أنا عاجز عن تكفين الضحايا لدفنهم، لا أستطيع بدء عملي اليومي، ليس بسبب نقص الأكفان فقط بل وانهيار المغاسل وعجزها عن مواصلة تجهيز الضحايا لمواراتهم الثرى".
في غزة التي يكثر فيها الموت قصفاً وجوعاً، لم تعد مغاسل الموتى قادرة على العمل، إذ تفقد الأكفان والمقصات وأدوات التنظيف والتعقيم وحتى المياه المستخدمة في تغسيل الضحايا، وأيضاً لا يجد المغسلون أي طعام يمكنهم من استمرار عملهم.
يضيف إبراهيم "مغسلو الموتى اعتادوا التعامل مع الأزمات، ولكنهم وصلوا إلى مرحلة باتوا معها عاجزين عن تنفيذ الطقوس الأساسية لغسل الموتى ودفن الضحايا بكرامة بسبب النقص الحاد في المستلزمات، وزاد الضغط على مغاسلنا في المستشفيات 100 ضعف عما كان قبل الحرب".
جهز مغسل الموتى أول ضحية بصعوبة، إذ لا تتوفر لعمله أية مستلزمات، وعلى رغم ذلك كفن الجثمان استعداداً لدفنه، لكنه يؤكد أنه لن يستطيع مواصلة عمله الآن لأن مياه غسل الموتى مقطوعة، ولا مقصات ولا أدوات تنظيف للجثث.
نشرت مغاسل الموتى في غزة وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني والدفاع المدني بياناً أبلغت فيه سكان القطاع بنفاد الأكفان ومستلزمات تجهيز الضحايا، وطلبت من عائلات الموتى جلب أقمشة لاستخدامها في لحْد المتوفى.
يوضح إبراهيم "لا نستطيع تجهيز كل الضحايا، اضطررنا إلى مطالبة الأهالي بجلب أقمشة وأغطية من منازلهم لاستخدامها، ولتأجيل لحظة انهيار المغاسل وعجزها لجأنا لتقليص عدد قطع القماش المستخدمة في التكفين، فبدلاً من خمس قطع للنساء وثلاث للرجال، بتنا نكتفي بقطعة واحدة للجميع".
حرق وتدمير
في غزة نحو 25 مغسلة للموتى منتشرة في غالب مستشفيات القطاع، ويعمل فيها 110 متطوعين و30 متطوعة، وجميع هذه المغاسل تديرها جمعية "قيراطان" (مؤسسة غير حكومية مهمتها تجهيز الموتى لدفنهم).
خلال الحرب لم تسلم هذه المرافق من التدمير، إذ قصف الجيش الإسرائيلي وحرق معظمها، ولم يتبق سوى ثلاث مغاسل تواصل عملها، وتقع عليها مسؤولية تجهيز ضحايا الحرب لدفنهم.
يقول مدير جمعية "قيراطان" المشرفة على مغاسل الموتى أحمد أبو عيد "منذ استئناف الحرب في مارس (آذار) الماضي ارتفعت أعداد الضحايا بشكل ملحوظ، وتضخم العدد أكثر بعد افتتاح مراكز التوزيع التابعة للولايات المتحدة". ويضيف "نعاني كثيراً، انهارت المغاسل المتبقية في غزة، وينقطع عنها الماء، ولا توجد داخلها أكفان ولا مقصات طبية ولا معقمات ولا أدوات تنظيف الجروح بسبب العجز ونقص المعدات، ونضطر إلى وضع أكثر من ضحية في الكفن نفسه، وقد نستخدم المعدات ذاتها لتجهيز الموتى".
يوضح أبو عيد أن الأزمة تتعقد مع وصول جثامين على هيئة أشلاء ممزقة، فحينها يتطلب الأمر أكياساً بلاستيكية لجمعها ودفنها، وهي مواد نادرة وشبه معدومة في غزة، إذ تمنع إسرائيل منذ فبراير (شباط) الماضي إدخال مستلزمات المغاسل.
ويشير إلى أن مغاسل الموتى يجب أن تواصل عملها، إذ تصل قوافل من الضحايا وجثث بلا رؤوس وجثامين محروقة وروائح كريهة تفوح من الأجساد المتحللة التي منع الجيش انتشالها لأسابيع، وكل ذلك نتعامل معه من دون مواد تعقيم وتنظيف.
يخشى أبو عيد من أن تتوقف مغاسل الموتى الثلاث المتبقية، كما خرجت مغاسل مستشفيات "غزة الأوروبي" و"النجار" و"الأندونيسي" و"كمال عدوان" وغيرها عن الخدمة تماماً، ويلفت إلى أن الجيش دمر تلك المغاسل بالكامل وحرق عدداً آخر، كما يتعذر الوصول إلى بعض المرافق لوقوعها في مناطق الإخلاء أو سيطرة الجيش.
وصية لم تنفذ
تجلس عائلة الضحية أسماء قرب مغسلة الأموات تنتظر انتهاء مراسم الغسل، وعندما خرج جثمانها لاحظ الأب جميل أن فتاته المدللة جرى تكفينها بقطعة بطانية صغيرة، وحينها صرخ وطلب إرجاعها للمغسلة.
قبل سقوطها في قصف إسرائيلي كتبت أسماء وصيتها على مواقع التواصل الاجتماعي قائلة "لو سمحتم، إذا مت أريد كفناً، ادفنوني بكفن لونه أبيض"، وبعد ساعات سقطت ضحية لغارة جوية شنتها الطائرات الحربية.
حاول الأب جميل توفير كفن لابنته ولكنه عجز عن ذلك، يقول "لم أنفذ وصيتها، لقد اعتذر المستشفى لنا لعدم وجود كفن لأسماء، واعتذر لأكثر من 20 عائلة جاؤوا لتكفين أبنائهم الذين ارتقوا في الليلة الدامية".
اضطرت عائلة أسماء إلى تكفين الضحية ببطانية كحال مئات آلاف الضحايا، ويعلق الأب "العالم يشاهد الإبادة في غزة، حتى حقوق الأموات عاجزون عن تنفيذها، يعز عليَّ دفن أسماء من دون كفن أبيض كما تريد، لكن لا حول لي ولا قوة".
اندبندنت