قد يكون الأسبوع الماضي بداية لتحول تاريخي لا يقل أهمية عن سقوط جدار برلين عام 1989، لكن هذه المرة من دون المشاهد الدرامية للجماهير التي تتدفق عبر نقاط التفتيش المسلحة، إذ يجد المستثمرون أنفسهم اليوم في مواجهة تحديات كبيرة لتقييم الواقع الجديد.
هناك ثلاث قضايا رئيسة يجب على المستثمرين التعامل معها ولا توجد لها إجابات بسيطة، لكن الأهم هو إعادة تشكيل التحالفات العالمية وتداعياتها طويلة الأمد، أما القضية الأكثر إلحاحاً فهي رد فعل "الاحتياط الفيدرالي الأميركي" تجاه التعريفات الجمركية. وفي الوسط تأتي قضايا مثل فك الارتباط العالمي وفقدان الثقة بين الدول واحتمالات إقامة حواجز مالية.
وعلى المدى القصير، تهدد التعريفات الجمركية على كندا والمكسيك إلى جانب زيادة بنسبة 10 في المئة على الواردات من الصين، بارتفاع فوري في الأسعار واضطرابات في الإنتاج داخل جميع أنحاء الولايات المتحدة، وتحاول الشركات فك ارتباط سلاسل التوريد في أميركا الشمالية.
وتتوقع "غولدمان ساكس" التي كانت ترجح تأجيل التعريفات مرة أخرى، أن تضيف تعريفات كندا والمكسيك 0.6 نقطة مئوية إلى معدل التضخم الأساس (باستثناء الغذاء والطاقة)، مع تأثير إضافي طفيف من التعريفات الصينية. ومع ارتفاع توقعات التضخم الاستهلاكي، يجد "الاحتياط الفيدرالي الأميركي" نفسه في موقف صعب.
وتقليدياً، تحاول البنوك المركزية تجاهل الصدمات العرضية مثل التعريفات الجمركية، لأن الزيادات في الأسعار الناتجة منها تكون لمرة واحدة، وهذا يسمح لها بخفض أسعار الفائدة لمحاولة دعم الاقتصاد، وهو ما قد يقلل أيضاً من الضرر الذي يلحق بالأسهم.
لكن إذا اعتقد المستهلكون والشركات أن ارتفاع الأسعار سيتكرر، فإن "الاحتياط الفيدرالي الأميركي" سيشعر بالقلق من أن هذه التوقعات وحدها قد تؤدي إلى مزيد من التضخم، مما يجعله أقل رغبة في خفض أسعار الفائدة.
4 احتمالات لخفض الفائدة عام 2025
وفي الوقت الحالي، يراهن المتداولون على أن البنك المركزي سيركز بصورة أكبر على الاقتصاد وسيخفض الفائدة، ووفقاً لأداة "سي أم أي فيدووتش" ارتفعت احتمالية تنفيذ أربع عمليات خفض للفائدة في الأقل هذا العام إلى 38 في المئة مقارنة بأربعة في المئة منذ تولي الرئيس دونالد ترمب منصبه خلال الـ20 من يناير (كانون الثاني) الماضي.
لكن هل سيكون "الاحتياط الفيدرالي" مستعداً لخفض الفائدة حتى مع دفع التعريفات الجمركية معدلات التضخم إلى الارتفاع؟
على المدى الطويل، تهدد التحالفات الدولية الجديدة النظام العالمي الذي ساد بعد الحقبة السوفياتية، وكان قرار ترمب بالوقوف إلى جانب روسيا وكوريا الشمالية ضد أوكرانيا في الأمم المتحدة رمزاً قوياً لذلك، وتعزز من خلال معاملة الرئيس الأوكراني في المكتب البيضاوي.
واستوعبت أوروبا الرسالة، إذ اصطف السياسيون لتحذير القارة من ضرورة أن تصبح قوة عسكرية مستقلة وعدم الاعتماد كلياً على حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وقد تؤدي مناقشات الاقتراض الجديد من قبل المفوضية الأوروبية وألمانيا إلى جمع مئات المليارات من اليوروهات للإنفاق العسكري.
ومنذ سقوط جدار برلين وعلى مدى ما يقارب نصف قرن فضل العالم "الزبدة" على "الأسلحة"، إذ كان التركيز على الاستهلاك والرفاهية بدلاً من التسلح، لكن مع صعود الصين وعدم اعتبار الولايات المتحدة حليفاً موثوقاً به بعد الآن، ستعود الأولوية للأسلحة وستكون إعادة هيكلة الاقتصاد وأنظمة التجارة والضرائب لاستبدال الإنفاق الدفاعي بالإنفاق الاستهلاكي عملية مثيرة للجدل سياسياً ومكلفة للغاية، ويبدو أن شركات المقاولات العسكرية الأوروبية هي الفائزة الواضحة، لكن من هم الخاسرون؟
يأتي هذا التحول خلال وقت تشهد فيه التحالفات العالمية حالاً من السيولة، وقد يقودنا ذلك نحو عالم متعدد الأقطاب للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.
ويحاول بعض أصدقاء أميركا إقناع أنفسهم بأن ولاية ترمب لن تدم سوى أربعة أعوام، وأن الرئيس القادم سيكون أكثر استعداداً للالتزام بالوعود التي قطعتها البلاد، لكن حتى بعض الملتزمين بالعلاقات عبر الأطلسي، مثل المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرتس يعترفون بأنه بمجرد انهيار الثقة لا يمكن استعادتها بسرعة، وخلال هذا الأسبوع انهارت هذه الثقة، واليوم يحتاج حلفاء أميركا إلى أن يكونوا قادرين على الوقوف بمفردهم، حتى إذا عادت الولايات المتحدة - سواء تحت حكم ترمب أو خلفه - إلى سياسة ودية مرة أخرى.
إلحاق الضرر بالاقتصاد العالمي
صحيفة "وول ستريت جورنال" تساءلت إلى أي مدى سيلحق إعادة التسلح وإمكانية نشوب حرب باردة متعددة الجبهات الضرر بالاقتصاد العالمي؟ وما التحالفات الجديدة التي ستتشكل؟
تقول الصحيفة إن ترمب جعل هذا المزيج أكثر تقلباً بإدخال التعريفات الجمركية، في حين أدرك المستثمرون الذين اعتقدوا أن الرئيس كان يخادع أن استعداده لإلحاق الضرر بالاقتصاد الأميركي وعلاقاته مع أقرب جيرانه من خلال فرض ضرائب كبيرة على الواردات كان جدياً.
وتضيف الصحيفة "ستكون الإنتاجية والنمو أقل عالمياً في ظل زيادة الحواجز التجارية، والانتقام - كما فعلت الصين وكندا على الفور - يعني أن هذه الحواجز قد تستمر في التصاعد".
وأوضحت الصحيفة أن التعريفات الجمركية التي تفرض وفق أهواء البيت الأبيض ستزيد من قوة الحكومة على الأعمال التجارية، وتابعت "لقد أصبح يتعين على الشركات الضغط للحصول على إعفاءات لقطعها الأساس، ولم يعد بإمكانها الاعتماد على الاتفاقات التجارية عند اتخاذ قرارات في شأن مواقع المصانع أو الموردين وحتى عندما يكون الاتفاق التجاري نفسه أبرمه الرئيس ذاته، كما هي الحال مع اتفاق الولايات المتحدة والمكسيك وكندا لعام 2018، علاوة على أن عدم اليقين بحد ذاته سيئ للأعمال التجارية، حتى من دون التعريفات الفعلية".
واليوم، يشعر بعض بالقلق من مدى سوء التباطؤ الاقتصادي المحتمل، وبينما يعتقد أنه من السابق لأوانه الحديث عن ركود اقتصادي في الولايات المتحدة، بدأت كلمة "الركود" تتداول، وانعكس منحنى العائد مرة أخرى إذ انخفض العائد على سندات الخزانة لأجل 10 أعوام إلى ما دون العائد على السندات لأجل ثلاثة أشهر، على رغم أن هذا التحذير الكلاسيكي من الركود كان يومض باللون الأحمر لمدة عامين حتى ديسمبر (كانون الأول) 2024 من دون حدوث ركود فعلي.
"القمع المالي"
أما على المدى الطويل فهناك مشكلات أكبر، فحكومات أوروبا مثقلة فعلياً بالديون قبل أن تبدأ بزيادة الإنفاق العسكري، وتشكل الضرائب المرتفعة تحدياً سياسياً في كل مكان، بينما يقلل خفض الإنفاق من الشعبية ويضر بالنمو أيضاً، ومع تراجع كفاءة التجارة العالمية يصبح التعامل مع الديون أكثر صعوبة.
عندما تقترض حكومات الدول المتقدمة بكثرة، يهرب المستثمرون من سنداتها وترتفع العوائد، مثلما اكتشفت أوروبا خلال أزمة منطقة اليورو بين عامي 2010 و2012، وأعادت بريطانيا اكتشاف ذلك عام 2022 تحت قيادة رئيسة الوزراء ليز تراس، التي سرعان ما غادرت المنصب.
وبعد الحرب العالمية الثانية كان الحل لعدد من الدول هو "القمع المالي"، إذ تبقى أسعار الفائدة منخفضة بصورة مصطنعة وتفرض قيوداً على رأس المال لمنع المستثمرين من سحب أموالهم من البلاد، مع الاعتماد على التضخم لتقليل القيمة الفعلية للديون.
اندبندنت عربية