سيرياستيبس
ليندا تلي
هجرة الشباب والأدمغة ليست بالحديث الجديد، ولكن في ظلّ مستقبل ضبابي
غير واضح المعالم، زادت النسبة وبات الشغل الشاغل لشبابنا اليوم هو الظفر
بجواز سفر، ولو بطريقة عاجلة تكبّد ذويهم تكاليف باهظة بغية الالتحاق بركب
من سبقهم لتأمين فرصة عمل يستطيعون من خلالها بناء مستقبل، وفي أقل الأحوال
دفع بدل خدمة العلم، ما ينذرُ بكارثة تحوّل مجتمعنا الفتي إلى مجتمع كهل،
مقابل انتعاش القارّة العجوز عبر استقطابها أهمّ الكفاءات والخبرات لدينا،
فهل من أذن مصغية “قبل أن تقع الفأس بالرأس” يتساءل مهتمّون؟.
ضياع المستقبل
عندما نتحدّث عن الشباب فحكماً نحن نتحدث عن المستقبل، بحسب الدكتورة
سلام قاسم، مؤكدةً أنّ هجرة الشباب تعني خسارة كبيرة لصنّاع الغد، إذ
تُعتبر هجرتهم في الفترة الأخيرة من أبرز التحديات الاجتماعية والاقتصادية
التي تواجه سورية، وبما أنّ الإنسان بطبعه كائن اجتماعي فهو يبحث عن
الاستقرار المرتبط بالعلاقات الاجتماعية التي يفقدها مع الهجرة، ولكن “ما
جبرك على المرّ قيل الأمر منه”.
تفكك روابط أسرية
وبيّنت أن الأوضاع الاقتصادية والبحث عن فرص عمل والشعور بالأمن والأمان
من أهم العوامل التي دفعت وتدفع الشباب إلى الهجرة التي لها الكثير من
الآثار السلبية، منها اضطراب التوازن الديموغرافي نتيجة تراجع نسبة الشباب
في المجتمع ممّا قد يؤثّر على التركيبة السكانية والنمو الاقتصادي على
المدى الطويل، كما تؤدي الهجرة إلى تفكّك الروابط الأسرية، حيث يضطر الكثير
إلى السفر تاركين وراءهم عائلاتهم، والاعتماد على المساعدات التي تقدّم
للاجئين ممّا يخفف من اعتماد الشباب على قدراتهم الذاتية.
“الغربة كربة“
وعلى الرغم من التحديات المرتبطة بالهجرة، إلّا أنّ لها جوانب إيجابية،
منها التحويلات المالية التي يرسلها الشباب المهاجر إلى عائلاتهم، إضافة
إلى اكتساب الخبرات التعليمية والثقافية والمهنية مما يعزّز فرصهم في
العمل، ولكن على الرغم من كل شيء، والحديث لـ الدكتورة قاسم، إلّا أنّ
“الغربة كُربة”، إذ قد يعاني المهاجر من بعض الاضطرابات النفسية نتيجة
الوحدة والبعد عن الأهل والأحباب، كما تمثّل هجرة الشباب تحدياً كبيراً
للمجتمع السوري في الحفاظ على كفاءاته وموارده البشرية، وتلك القضية شائكة
وتحتاج إلى حلول جوهرية تضمن عودة الشباب المهاجر إلى حضن الوطن.
خسارة لا تُقدّر بثمن
ازدادت هجرة الشباب السوري بعد اندلاع الحرب، حيث بلغت نسبتهم في
ألمانيا وحدها 30000 طبيب وصيدلاني، باعتبارها من أكثر الدول استقطاباً
للكفاءات، وفق ما ذكر استشاري التدريب والتطوير الخبير الاقتصادي عبد
الرحمن تيشوري، لافتاً إلى أنّ أبصارهم ستبقى معلّقة بالخارج إذا لم نُحسن
الاستفادة منهم وإعطاءهم الحقوق المناسبة وخاصّة المادية منها، وربما
تتفاقم مشكلة العلماء والباحثين العرب في المستقبل بسبب عودة بعضهم من
الخارج للاستغناء عن خدماتهم وعدم إمكانية تأمين فرص عمل مناسبة داخل
وطنهم، أو تكليفهم بأعمال هامشية دون المستوى الذي وصلوا إليه، فتزداد
الأمور تعقيداً ونخسر بذلك ثروات لا تقدّر بثمن.
عصر المواصفات
واقترح تيشوري العمل على استقطاب الكفاءات في الداخل وجذب كفاءات الخارج
ووضع جدول أجور خاص بذلك، ووضع توصيف وظيفي جديد يراعي ذلك، وتعديل قوانين
الوظيفة العامة، وإعادة تقييم تجربة المعهد الوطني للإدارة، وإقرار تقاعد
مبكر لكسر مقاومة الإصلاح وخاصة من قبل الكبار ومنخفضي التأهيل، والاهتمام
بمواصفات الإنسان والسلع المنتجة والارتقاء بالجودة، والسعي للخروج بالشباب
من دائرة الإحباط والمواقف السلبية إلى دائرة النور والمشاركة الفعّالة
الإيجابية في بناء الوطن، والاعتماد على التخطيط السليم والتنفيذ الجيد
والمتابعة والتقييم والمحاسبة وتصحيح المسارات كلّما وقعت زلّات أو أخطاء،
ووضع خطط تنموية قصيرة وأخرى متوسطة وثالثة استراتيجية بعيدة المدى، والسعي
جدياً نحو الادخار، إذ بدونه لا يوجد استثمار وبدون ادخار واستثمار لا
توجد مشاريع جديدة، وبالتالي لا توجد فرص عمل جديدة للشباب السوري، وإعطاء
الأولوية للمشاريع الزراعية والصناعات الغذائية بغية الوصول للاكتفاء
الذاتي وإن أمكن مستقبلاً تصدير المواد الغذائية الفائضة، وتطوير صادراتنا
بحيث تكون مواد مصنّعة، وأن تكون وارداتنا مواد أولية بغية إتاحة مزيد من
فرص العمل، والحفاظ على الكفاءات العلمية وتطويرها وتحقيق طموحاتها كمّاً
ونوعاً باعتبار أكثر ما يميز هذا العصر أنّه عصر المواصفات، سواء بالنسبة
إلى الإنسان أو أية سلعة منتجة.
بوابات غير شرعية
في بداية الأزمة السورية ومع تأزّم الأوضاع توجّهت فئة كبيرة من الشباب
للهجرة خارج البلاد وعبر طرق غير شرعية في غالبها، وفق ما تحدّث به المحامي
أكرم المحمود، لافتاً إلى أنّ بوابات الهجرة من سورية كانت متعدّدة
وأكثرها عبر الحدود التركية عن طريق بعض المهرّبين من تركيا عبر الشمال
السوري الذي كان يعجّ بالفلتان الأمني وسيطرة الجماعات المسلّحة وخروجه عن
سيطرة الدولة، فكانت تنشط عصابات لتهريب الأشخاص عبر تركيا ومنها إلى
أوروبا الشرقية وصربيا وهنغاريا، وكانت تتراوح التكلفة بين 850 – 1200
دولار للشخص الواحد بمجرد عبوره الحدود من سورية إلى تركيا، والبوابة
الثانية كانت وصول السوريين إلى ليبيا، إمّا بطريقة تهريب أو بطريقة شرعية،
ومنها تهريب عن طريق البحر إلى إيطاليا، ومن ثمّ إلى أوروبا بكلفة تتراوح
بين 4-6 آلاف دولار، والبوابة الثالثة كانت من تركيا عبر البحر إلى اليونان
ومنها إلى مكدونيا وأوروبا الشرقية.
اكتفاء بالغرامة
القانون السوري عالج ظاهرة الهجرة غير الشرعية، بحسب المحمود، عبر صدور
القانون رقم 18 لعام 2014 وتخصيص المادة الخامسة منه والتي نصّت على أنّه
لا يجوز مغادرة أراضي الجمهورية العربية السورية أو الدخول إليها إلّا من
الأماكن التي تحدّد بقرار من الوزير بالتنسيق مع وزير المالية، وكذلك عاقب
القانون المهاجر غير الشرعي من خلال المادة 13 بالفقرة /ج/ بالحبس من ستة
أشهر إلى سنتين وبغرامة مالية من 50 -100 ألف ليرة سورية، أو بإحدى هاتين
العقوبتين لكل من يخالف المادة 5 والمادة 11 من هذا القانون، وغالباً كان
يُكتفى بالغرامة دون الحبس.
تسوية أوضاع
ولفت المحمود إلى دور وزارة الخارجية والمغتربين المتعاون بخصوص
المهاجرين غير الشرعيين “لاجئ” في أوروبا، حيث أصدرت أكثر من تعميم بضرورة
مراجعة السفارات لتسوية أوضاعهم، وبعد عام 2014 صدر أكثر من عفو شمل ذلك
النوع من الهجرة باعتبارها جنحة كعطاء من الدولة لتشجيعهم على العودة إلى
البلد، خاصّة وأنها ألغت عقوبة الحبس واكتفت بالغرامة، إضافة إلى التسويات
التي كانت تتمّ عبر السفارات، أمّا عبر الحدود فكانت التسوية عن طريق
الهجرة والجوازات بحيث يتمّ تسوية أوضاعهم ويدخلون بطريقة نظامية، أمّا من
كان يغادر بطريقة غير شرعية ويعود عن طريق المطار فيتمّ تسوية وضعه بعد
إتمام إجراءات روتينية بسيطة، وإلى اليوم يتمّ العمل بهذه التسويات.
هامش
في نهاية المطاف يبقى كل ما تمّ عرضه وذكره من ذوي الاختصاص أفكار
ومقترحات تستوجب من الجهات المعنية ضرورة وضع خطط مدروسة لاستقطاب الشباب
المهاجر، وفي المقابل العمل بجدية للحفاظ على ما تبقّى من كوادر وموارد
بشرية نخشى عليها من الاستنزاف، كما حدث خلال سنوات الحرب، فهل تلقى دعوتنا
آذاناً مصغية؟