
سيرياستيبس : ما يريده «المواطن العادي» وما يحقق مصلحته فعلياً هو القضاء على الفقر في سورية، لكن السؤال هو كيف يمكن تحقيق ذلك؟
لن يتحقق القضاء على الفقر بمجرد نمو
اقتصادي عابر أو وعود نظرية، بل يحتاج إلى رؤية وطنية شاملة تعالج جذور
المشكلة وتتبنى نموذجاً سورياً خاصاً يضع مصلحة السوريين في صدارة
الأولويات. لقد أثبتت التجربة السورية خلال العقود الماضية أن ترك الأمور
لقوى السوق والاعتماد على جهاز دولة مترهل دون إصلاح، كلاهما طريقان
مسدودان. وعليه، فإن المقاربة العملية للقضاء على الفقر يجب أن تقوم على
دور قوي وفعال للدولة من جهة، وعلى إعادة توجيه دفة الاقتصاد نحو تلبية
احتياجات المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية من جهة أخرى.
لا غنى عن دور محوري للدولة في المرحلة
المقبلة لضمان توجيه الموارد نحو أولويات إعادة الإعمار والتنمية البشرية.
وهذا لا يعني العودة إلى اقتصاد مغلق مزعوم، بل المقصود أن تكون الدولة
مخططاً ومنظماً رئيسياً تحدد القطاعات الاستراتيجية التي يجب النهوض بها
وتحفز الاستثمار فيها دون التفريط بها، وتعيد بناء البنية التحتية المدمرة.
إن الدولة القوية والعادلة هي وحدها التي تستطيع وقف الاحتكارات، وضبط
الأسواق، ومكافحة الفساد، وتبديد الموارد. وفي الحالة السورية، ينبغي على
الدولة استعادة دورها في التخطيط الاقتصادي طويل المدى لضمان تنويع
الاقتصاد وإيجاد فرص عمل منتجة، بدلاً من تركز النشاط في التجارة والأنشطة
الريعية.
ومن أجل تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية
والتخفيف الفوري من معاناة السوريين الأكثر فقراً، لا بد من اعتماد سياسات
صريحة لإعادة توزيع الدخل والثروة داخل المجتمع. لقد أدت سنوات الحرب
والفساد إلى تراكم الثروة لدى فئة ضيقة من المنتفعين، فيما انزلقت الغالبية
العظمى إلى ما دون خط الفقر. وعليه، ينبغي أن تتضمن الرؤية لسورية الجديدة
إجراءات مثل إصلاح النظام الضريبي ليصبح تصاعدياً بحق، يفرض ضرائب أعلى
على الشركات الكبرى وأصحاب الدخل المرتفع، مقابل تخفيف العبء عن الفقراء
ومحدودي الدخل. كما يتعين مكافحة التهرب الضريبي الذي حرم الخزينة من موارد
كانت كفيلة بتمويل برامج اجتماعية مهمة، والوقف الفوري لجميع عمليات تبديد
مصادر إيرادات الدولة التي تصاعدت مؤخراً.
لا يمكن كسر حلقة الفقر في سورية دون رفع
فعلي لمستويات دخل الأسر، وبخاصة شريحة العاملين بأجر. فالأجور الحالية،
حتى بعد الزيادات المتتالية التي أعلنت خلال السنوات الماضية، تلتهمها
ارتفاعات الأسعار السريعة التي لا يوجد من يضبطها اليوم.
الطريق نحو القضاء على الفقر يتطلب نهجاً
متكاملاً ومدروساً يضع العدالة الاجتماعية في صلب أولوياته. ولا يمكن تحقيق
ذلك إلا من خلال دور قوي وفعال للدولة، ليس كجهة تتخلى عن المسؤولية
الاقتصادية، بل كمهندس لإعادة بناء الاقتصاد وحماية مواطنيها.
من يريد أن ينتشل المواطنين حقاً من
الفقر، فهو محكوم بأن يركز جهوده على إعادة توزيع الثروة لصالح الغالبية
المنهوبة، ورفع القوة الشرائية الفعلية للأجور، ودعم الإنتاج المحلي السوري
وتطويره لحماية الصناعات الوطنية واستعادة عوامل الاكتفاء الذاتي. كما أن
بناء الثقة بين الدولة والمواطنين لا يمكن أن ينجز دون ضمان مستوى عالٍ من
الرقابة الشعبية والمشاركة المجتمعية الواسعة في صنع القرار الاقتصادي. وفي
حين أن العلاقات الخارجية النشطة يمكن أن تساهم نظرياً في تسهيل حياة
السوريين، إلا أن النجاح في النهاية يعتمد بشكل أساسي على التغيير الداخلي
الجذري، والقطع تماماً مع سياسات السلطة السابقة التي جرّفت جهاز الدولة
السوري.
سورية بحاجة ماسة إلى التحول من نموذج
اقتصادي يخدم النخب إلى نموذج يعزز النمو الشامل، حيث تقاس الإنجازات
الاقتصادية بمدى تحسينها لمعيشة السوريين. والفشل في تبني هذا النهج الشامل
والموجه نحو العدالة الاجتماعية سيؤدي إلى استمرار دورة الفقر وعدم
الاستقرار، مع تداعيات كارثية على الأجيال القادمة. من مقال في جريدة قاسيون
|