تبدو المنطقة اليوم أقرب إلى الحرب من أيّ وقت مضى، على رغم رسائل عدم الرغبة في التصعيد التي يتبارى أكثر من طرف دولي في نقلها. الشعور العام السائد هو أن الحرب لا تزال خياراً حاضراً، في ضوء التطورات المترتبة على عملية اغتيال الجنرال قاسم سليماني ورفاقه في بغداد. وهو شعور عبّرت عنه معظم وسائل الإعلام الأميركية، قبل العالمية، عبر تحليلها المستمر لميزان القوى العسكرية بين طهران وواشنطن، وبنك الأهداف المتوقع استهدافها من قِبَل الدولتين مباشرة أو عبر حلفائهما. إلا أن الحرب لا ترتبط فقط بالبعد العسكري، ولا سيما في منطقة تنتج معظم احتياجات العالم من النفط والغاز. فالمصالح الاقتصادية هي الأكثر حضوراً على طاولة اتخاذ القرارات المتعلقة بالحروب، سواء بالنسبة إلى المصالح التي يجب أن تحميها الحرب، أم تلك التي يفترض أن تدمّرها، أو التي من شأنها أن تسهم في سحب الفتيل. ليس ثمة دولة في المنطقة يمكن أن يكون اقتصادها معزولاً عن تأثيرات أيّ حرب، خصوصاً الدول التي تستضيف قواعد عسكرية أميركية، أو التي توجد فيها مصالح اقتصادية غربية، وهذا يعني بوضوح أن منطقة الخليج ستكون في قلب تأثيرات المواجهة المرتقبة. وتالياً، فإن اتخاذ قرار الحرب من عدمه مرهون بعاملين أساسيين: الأول حجم وطبيعة المصالح الاقتصادية الإقليمية والدولية في المنطقة وتأثيرها على النشاط الاقتصادي العالمي، والثاني مستقبل الوجود الأميركي في المنطق

أيّ حرب شاملة أو محدودة في المنطقة ستخلّف دماراً اقتصادياً تتقاسم أضراره دول المنطقة والعالم. ولعلّ المتأثّر الأول سيكون قطاع النفط، الذي ستخسر الأسواق العالمية منه الجزء الأكبر، وهذا يعني أن الصادرات النفطية لأهمّ سبع دول نفطية، والمقدّرة بأكثر من 417 مليار دولار سنوياً ستتوقف، أو على الأقلّ ستتراجع بنسب متفاوتة بحسب مجريات المواجهة. وبالتالي، فإن مصير 17% من الواردات النفطية الأميركية التي تأتي فقط من دول عربية أعضاء في منظمة «أوبك» سيكون في مهبّ الريح. كذلك الحال بالنسبة إلى مشاريع النفط والغاز والبتروكيماويات التي تُنفّذ حالياً أو يُخطَّط لتنفيذها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والمُقدَّرة قيمتها بأكثر من 859 مليار دولار. فهي الأخرى ستكون معرضة لخطر التوقف أو الإلغاء، وبالتأكيد ستتوقف معها أيضاً مئات الشركات الأجنبية الكبرى العاملة في مجال التنقيب عن النفط وإنتاجه وتكريره وتصديره، وغالبية تلك الشركات أميركية تعود ملكيتها إلى جهات مؤثرة في صناعة القرار.
كلّ ذلك يدفع متخذ قرار الحرب الأميركي إلى حساب «خسائره» أولاً، على قاعدة أنه رابحٌ حالياً، ومن الصعب التقدير بأن أيّ حرب في المنطقة ستمنحه مزيداً من الربح. وبحسب الباحثة الاقتصادية رشا سيروب، «فإن الأعوام القادمة هي الفيصل في إعادة هيكلة اقتصادات الدول وحجز المقاعد الأولى في قيادة دفة الاقتصاد العالمي، ونقصد هنا ليس فقط إنتاج النفط، بل ضمان الوصول من دون انقطاع إلى موارد الطاقة، ما يتطلّب بقاء ممرّات الشحن مفتوحة». وتضيف في حديث إلى «الأخبار» أن «منطقة الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص بلاد الشام وقناة السويس والخليج العربي، ستكون المصدر الرئيس لنفط العالم، وهذا ما شهدناه بوضوح منذ عام 2010، فقد أصبحت المنطقة مسرحاً حاسماً للتغيير وإعادة هندسة نظام عالمي جديد، وموطناً للمتنافسين واللاعبين الدوليين والإقليميين (القدامى والطامحين الجدد) الذين يتنافسون على دفة القيادة العالمية». من جهته، يشير الباحث الاقتصادي حيان سلمان إلى أن «المضائق البحرية في المنطقة تمثل مركز الاهتمام العالمي؛ فمثلاً مضيق هرمز يتحكّم وحده بنحو 32% من إمدادات النفط العالمي، فكيف الحال مع إطلالة إيران على مضيق هرمز، وإطلالة حلفاء إيران على البحر الأبيض المتوسط، وما قد يسببه ذلك من متاعب لخطط الولايات المتحدة وسياساتها، وهي مخاوف لمّحت إليها مؤخراً تصريحات بعض المسؤولين الأميركيين»، مضيفاً في حديثه إلى «الأخبار» أن «كلّ حروب العالم هي حروب اقتصادية، من حيث الأسباب والجذور، لكنها تلبس لبوساً آخر، ولهذا مع نشوب أيّ حرب في المنطقة، فإن مصالح العالم كلها ستتأثر، وعلى رأسها مصالح أميركا».

لا تتوقف أهمية المنطقة اقتصادياً على الثروة النفطية والغازية والصناعات المرتبطة بها


ولا تتوقف أهمية المنطقة اقتصادياً على الثروة النفطية والغازية والصناعات المرتبطة بها؛ فالاستثمارات الأجنبية المباشرة التي استقبلتها دول الخليج خلال العام 2018، والبالغة أكثر من 17.3 مليار دولار وفق تقديرات أممية، ستكون هي الأخرى معرّضة لخطر الضياع أو الخروج نحو دول أخرى مع أيّ تصعيد جديد، لا بل إن الرصيد الاستثماري الأجنبي المباشر الوارد إلى دول الخليج، والمتشكّل خلال 13 عاماً، والبالغ وفق تقرير الاستثمار العالمي نحو 476 مليار دولار، سيتأثر هو الآخر. فالحرب إن وقعت هذه المرة ستكون مختلفة تماماً عن سابقاتها من حروب الخليج الثلاث، ولعلّ أزمة الناقلات النفطية التي حدثت أخيراً قدّمت دليلاً على طبيعة الخسائر التي يمكن أن تتلقّاها أسواق النفط العالمية. كما أن المتضرر ليس فقط اقتصادات الخليج، بل اقتصادات المنطقة بكاملها، الأمر الذي سيتسبّب في تأزم أكبر للأوضاع الاقتصادية الإقليمية. وهنا، ينبّه الاقتصادي شادي أحمد إلى ضرورة عدم التقليل من خطورة ما أنجزته واشنطن على مدى سنوات طويلة، «فالتصعيد سوف يؤثر على المصالح الاقتصادية الأميركية في المنطقة، لكن يجب ألا نعتقد أن هذه المصالح سوف تنتهي أو تزول، لأن الولايات المتحدة استطاعت أن تنجز على مدى صيرورة تاريخية أدوات ووسائل من أجل السيطرة الاقتصادية».

ليس انسحاباً بالضرورة
عززت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الأخيرة، والتي أشار فيها إلى أن بلاده لم تعد بحاجة إلى نفط الشرق الأوسط، توقعات البعض بإمكان مغادرة واشنطن المنطقة قريباً على اعتبار أن وجودها عسكرياً فيها لم يعد مجدياً اقتصادياً. توقعات تؤيّدها مؤشرات عديدة، كما يرى البروفسور السوري والوزير السابق حسين القاضي، الذي يعتبر في حديثه إلى «الأخبار» أن ما يجري تداوله يشير إلى «ملامح أزمة اقتصادية عميقة، تتبدّى من خلال العجز المتزايد في الموازنة الأميركية، وتناقص الفجوة التي تفصل بين الولايات المتحدة والصين، إضافة إلى تغيّر الخريطة الاقتصادية الدولية، وتراجع النفط والغاز بحيث لم يعد السلعة الاقتصادية الأولى. وهذا يعني تراجع الأهمية الاقتصادية لمنطقة الخليج». وبناءً على ذلك، فإن «الوجود العسكري في منطقة الشرق الأوسط غير مجدٍ من الناحية الاقتصادية، إلا إذا كان مدفوع التكاليف، وهذا أمر طارئ في العلاقات الدولية. ولذلك، لم يكن التصعيد هدفاً للإدارة الأميركية ولا لغيرها من الدول المعنية. ولذا، فإنني أميل إلى الاعتقاد بأن الانسحاب العسكري من العراق وسوريا هو هدف قريب للإدارة الأميركية، مع تخفيف الوجود العسكري في الشرق الأوسط بصورة عامة».
لكن، هل تحقيق الولايات المتحدة اكتفاءها الذاتي من النفط يجعلها تتخلّى عن الشرق الأوسط؟ ليس الأمر متعلقاً باستهلاك الداخل الأميركي من النفط فقط، فهناك مئات الشركات الأميركية العاملة في حقول النفط الخليجية والعراقية، والتي تحقق سنوياً إيرادات هائلة من إنتاج النفط وتكريره وتجارته، ومن المستبعد أن تتخلّى الإدارة الأميركية عن هذه المليارات. يضاف إلى ما تقدّم أن الشرق الأوسط يقع في قلب المعركة التي تقودها إدارة ترامب ضدّ كلّ من روسيا والصين. وهذا ما توضحه الدكتورة رشا سيروب بقولها «إن قراءة متأنية لقانون الدفاع الوطني الأميركي للسنة المالية 2020 رقم (116-92)، والذي تمّ إقراره أخيراً بتاريخ 20 كانون الأول 2019، يعطي بعض الدلالات على سلوك الولايات المتحدة خلال العام 2020 في المنطقة، إذ توجد فقرات خاصة بروسيا وأخرى تتعلق بالنفوذ الإيراني في سوريا ولبنان، وأيضاً يتحدث عن دراسة وتحليل البيئة القانونية للاستثمارات الأجنبية المباشرة للصينيين، ليس فقط في الولايات المتحدة بل في دول أخرى»، إضافة إلى «العديد من المواد التي تعطي إشارات واضحة إلى أن واشنطن لن تنسحب من الشرق الأوسط، ولا يمكن بحال من الأحوال تخيل أن تذهب واشنطن بعيداً من دون أن تأخذ نصيباً وافراً من كعكة الغاز والنفط المكتشف، ما يتسق ورؤى ترامب الاقتصادية وصراعه من أجل إعادة الولايات المتحدة الأميركية الرقم واحد اقتصادياً ومالياً حول العالم». رؤية يتفق معها حيّان سليمان، الذي يعتقد أن «الاهتمامات الأميركية بالمنطقة لا تزال موجودة، بل على العكس من ذلك، فهي ستتزايد. ومصدر هذا الاهتمام ليس اقتصادياً فقط، فهناك عوامل أخرى متعلقة بالعامل الجيوسياسي واستثماره في محاصرة روسيا والصين وإيران، ومن ثم محاصرة المناطق الدافئة، والتحكم بأوروبا، لا سيما في ظلّ إدارة ترامب». أما اقتصادياً، «فالأهداف الأميركية كثيرة، تبدأ بالنفط والغاز، مروراً بتصدير منتجاتها إلى المنطقة، فالحصول على موارد المنطقة وتطبيق مقص الأسعار، أي الفارق بين سعر المادة الأولية والمنتجات الصناعية الناجمة عن تصنيع تلك الموارد».
وإلى أبعد من ذلك يذهب شادي أحمد، باعتباره أن «اهتمام الولايات لا يتّجه نحو السيطرة المباشرة على آبار النفط، فهذا أصبح مكلفاً جداً، بل إلى السيطرة على سوق النفط العالمي، وهذا يجعل الشركات الأميركية تكسب، سواء زادت أسعار النفط أم انخفضت، وزاد المخزون أم قلّ. باختصار، هي في حالة كسب دائمة، لأنها هي التي تسيطر على أسواق النفط». ولذلك، فمن «يعتقد أن الولايات المتحدة ستتخلى عن الاستثمارات النفطية هو على حق، لكن لأن هذه الاستثمارات لم تعد تعنيها. هي تتركها لدول أخرى، وتتفرّغ لإحكام سيطرتها على الأسواق العالمية التي تحدّد الأسعار وتتحكّم في البورصات، إضافة إلى أن واشنطن تسيطر بشكل كبير على العملات الوطنية الموجودة في دول المنطقة عن طريق ربط العملات الوطنية بسعر صرف الدولار، وهذه مفارقة خطيرة جداً».