هل نقترب من الهاوية أم نحن في بداية النهاية؟"
هذا التساؤل الأبرز الذي يحمله المتخصصون الاقتصاديون في بريطانيا ممن بحثت معهم، للإجابة عن هذا السؤال.
أسئلة متعددة وراء هذا المنحنى الصعب الذي تعيشه لندن، خصوصاً أن قارب الجناة حمل معه أكثر من 11 ألف مليونير إلى عواصم عالمية، بعيداً من التخبط الاقتصادي الذي تعيشه حكومة حزب "العمال".
المؤشرات لا تبشر بخير، فهذه الأرقام تكشف عن ارتفاع التضخم داخل البلاد بأكثر من المتوقع ليصل إلى أعلى مستوى خلال 10 أشهر عند ثلاثة في المئة، ومن المرجح أن يرتفع أكثر قريباً، مما يختبر ثقة بنك إنجلترا في أن ضغوط الأسعار تسير نحو مسار هبوطي على المدى الأطول.
ويؤكد محللون اقتصاديون أن انزلاق البلاد نحول الهاوية يدعمه عدد من العوامل، منها "هشاشة" الاقتصاد المحلي وغياب القطاع الصناعي الذي كان مضرب المثل للدول المتقدمة، إضافة إلى تراجع سوق المال اللندني وهرب الشركات إلى بورصات عالمية متجددة، منها نيويورك وأمستردام وفرانكفورت.
السياسة الضريبة
ولعل السياسة الضريبية المستمرة هي التي أرهقت الشركات والعاملين، إذ ذكرت أربعة مصادر مطلعة لوكالة "رويترز" أن رؤساء شركات عالمية في القطاع المالي ضغطوا على وزيرة المالية البريطانية ريتشل ريفز لتحسين الحوافز الضريبية الموجهة للأفراد في بريطانيا من أجل حثهم على الاستثمار، مما قد يسهم في تعزيز القدرة التنافسية للبلاد.
وتعرضت الحكومة البريطانية لضغوط متزايدة لتعزيز النمو البطيء في البلاد وإجراء إصلاحات لمساندة القطاع المالي، والتنافس على نحو أفضل مع المراكز المنافسة للندن مثل نيويورك.
إجراءات بيروقراطية
وقال مصدر إن "ريفز أكدت رغبتها في تقليص الإجراءات البيروقراطية لمساعدة بريطانيا في المنافسة".
وأحجمت وزارة المالية عن التعليق، وجاء في بيان صادر عن وزارة المالية خلال وقت سابق من اليوم الخميس أن ريفز أوضحت خلال الاجتماع أن بريطانيا ستخفض وقتاً تستغرقه تسوية التداولات في الأوراق المالية، ضمن جهود أوسع نطاقاً لجعل عملية التداول أسرع وأسهل.
من "بريسكت" إلى حرب أوكرانيا
ما بين "بريكست" وحرب أوكرانيا سقطت لندن في غياهب الأزمات، فلم تنجح حكومة رئيس الوزراء ستارمر في توقيع اتفاقات تجارية حتى مع أقرب الحلفاء لها، وفي الوقت ذاته لم توفر الحكومات أي بديل اقتصادي لاستيعاب الخروج من الاتحاد الأوروبي، وكل ما عملته السلطات مشاريع محدودة لم تؤثر في إحياء اقتصاد بريطاني مؤثر، وفجوة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي باعدت بينها والمنافسين العالميين، خصوصاً أن الاقتصاد الحديث سيعتمد بلا شك على أدوات التطور الجديد. وبحسب المحللين، فإن المرحلة المقبلة للبلاد ستكون صعبة مع غياب الرؤية الشاملة لإنقاذ الاقتصاد، بل إن بعضهم أكد أن السلطات فقدت بوصلتها الاقتصادية.
العودة إلى حضن أوروبا
المسألة عميقة إن لم تكن "بعيدة" لعودة بريطانيا إلى أوروبا، بل إنها "خطرة سياسياً" وقد تبقى هذه المسألة لفترة طويلة من دون حل، فالتيار الذي دفع لندن خارج الحضن الأوروبي ما زال قوياً، بل إن الرغبة الأوروبية للعودة فقدت حلاوتها مع الأزمات التي تمر بها إنجلترا. وعلى رغم أن حزب "العمال" يحكم بغالبية برلمانية ساحقة تمكنه من تمرير ما يشاء من القوانين والقرارات والأوامر التنفيذية، فإن الخوف الآتي من المعسكر اليميني في بريطانيا المناوئ لأوروبا عموماً لا يزال قوياً، وإن كان لا يبرر ضعف الحكومة الحالية في الحديث بصراحة عن الآثار السلبية التي تركها "بريكست" داخل الساحة المحلية.
تقارب فحسب
محللون يرون أن ما تقوم به لندن مع أوروبا ليس إلا "تقارباً" فحسب أو تعاوناً، إذ يسعى الجانبان إلى سد فراغ الخلاف بينهما، خصوصاً أمام التحدي الجديد الذي يواجه الطرفين في مواجهة مشاريع الرئيس ترمب.
مصاعب بريطانيا الاقتصادية لن تجعلها قادرة على لعب دور فعال وحقيقي في مواجهة الاستحقاقات القائمة، فالحكومة الحالية تحاول سد فجوة ضبط الموازنة التي بلغت أكثر من 22 مليار جنيه استرليني (نحو 27.75 مليار دولار)، ومع الوعود بتحمل أعباء "بريكست" فان النتائج ستكون كارثية.
ووفق تقديرات "بلومبيرغ"، فإن ناتج المملكة المتحدة يخسر 100 مليار استرليني (نحو 126 مليار دولار) سنوياً بسبب "بريكست"، واستناداً إلى مكتب مسؤولية الموازنة البريطاني فإن تجارة البلاد ستتكبد خسائر تصل إلى 15 في المئة على المدى البعيد للسبب نفسه.
والخروج من السوق الموحدة وحده أحدث عجزاً سنوياً في الخزانة العامة بنحو 45 مليار استرليني (57 مليار دولار)، وهذا الرقم يعادل عملياً ثلث العوائد الضريبية على الدخل الأساس.
أمام هذه الأضرار المتفاقمة التي لن تتوقف لأعوام عديدة، ليس أمام حكومة "العمال" الحالية سوى العمل بسرعة فائقة لعلاقات أكثر شمولاً مع الشركاء الأوروبيين السابقين.
وعلى رغم كل هذه المعطيات فلا يزال الخطاب الحكومي بعيداً من الحديث الواضح الخاص بالخسائر الناجمة عن "بريكست"، حتى بعد أن أعلنت كلية لندن للاقتصاد توقف 16 ألفاً و400 شركة (ما يوازي 14 في المئة من المؤسسات المصدرة) عن التصدير للاتحاد الأوروبي، بسبب المشكلات اللوجيستية الناجمة عن الخروج البريطاني.
فتح الملفات
فهل آن الأوان حقاً للحكومة العمالية أن تفتح كل الملفات قبل فوات الأوان؟ وستارمر قادر على القيام بذلك مستغلاً القاعدة البرلمانية الهائلة التي يتمتع بها، وكذلك تراجع نسبة المؤيدين لـ"بريكست" حتى في أوساط من صوتوا لصالحه، بعد أعوام من التجارب الواقعية التي أظهرت كماً متعاظماً من السلبيات والفجوات الاقتصادية والاجتماعية الخطرة.
ويعرف الجميع أن عودة بريطانيا للاتحاد الأوروبي لن تُنجز، في الأقل خلال الأعوام الـ10 المقبلة، وليس أمام لندن سوى التوصل إلى اتفاقات أقرب إلى التشاركية مع الاتحاد، منها إلى تعاون وثيق.
قد يكون السقوط الاقتصادي البريطاني في بدايته، لكن الانزلاق بدأ، وقد نشهد تحولاً نحو حال طوارئ "اقتصادية" داخل البلاد إن لم يحسن "داوننينغ ستريت" العمل على انتشال البلاد من الأزمة.
اندبندنت عربية