سيرياستيبس :
بين ما تنقله وسائل الإعلام عن صفقات واستثمارات كبرى يجري ترتيب قدومها بل وحتى توقيع مذكرات تفاهم في شأنها بمليارات الدولارات، وبين أحاديث الاقتصاديين والأكاديميين التي تتسم بالحذر والاعتقاد بعدم كفاية ما تفعله الحكومة، يتابع الشعب السوري حياته يوماً بيوم غير معني ربما بما يجري وبما يقال، محاولاً تلقف رزقه ومواجهة قلة حيلته وتدهور معيشته على أمل أن القادم أفضل.
وإذا كان من السهل الاطلاع يومياً على أخبار ومقالات وتقارير إعلامية تتحدث عن شركات طيران تفكر في تسيير رحلاتها إلى سوريا، وتصريحات وزراء الحكومة الحالية بالتخطيط لمشاريع كبرى، وعن بشائر مقبلة وتوقيع مذكرات تفاهم كالتي وقعت حديثاً مع تجمع شركات بقيادة شركة "يو سي سي" القطرية لإقامة مشاريع كهرباء ستتيح إنتاج 5000 ميغاوات، وأيضاً اتفاقات لتطوير المرافئ وإقامة مشاريع نفطية لشركات أميركية، فإن أساتذة كلية الاقتصاد في جامعة "دمشق" يذهبون ويميلون في أحاديثهم إلى تقديم النصائح والتحذير من الوقوع في الأخطاء، وبينما اتفق بعضهم أن الاستثمارات تحتاج إلى تحقيق الأمن أولاً، رأى آخرون أنه لا بد من الانطلاق وعدم الانتظار.
وضمن ندوة استضافتها كلية الاقتصاد في جامعة "دمشق" بعنوان "أثر العقوبات على الاقتصاد السوري" بمشاركة عدد من أساتذة الجامعة، أجمع الحضور على ضرورة ترتيب البيت الداخلي وبناء رؤية وخطة استثمارية للبلاد تدرك وتلامس حاجات التنمية والمجتمع، والعمل على جذب الاستثمار الخارجي بما يحقق مصالح البلد وحاجاته الكثيرة. وبينما ذهب بعض الحاضرين إلى الاعتقاد بعدم كفاية تعليق العقوبات 180 يومياً بموجب الرخصة 52 الصادرة عن وزارة الخزانة الأميركية، إذ كان يتعين إلغاء العقوبات بالكامل من أجل إعطاء دمشق فرصة كاملة للسير نحو مستقبل أفضل، ذهب بعض إلى أنه كان يجب تعليق العقوبات عامين في الأقل حتى تتمكن البلاد من عكس الأمر في اقتصادها، وسط مطالبات بتغير العملة وإصدار عملة بلاستيكية.
إقبال خليجي لتأسيس شركات وساطة
كان لافتاً ما ذهب إليه الأستاذ في كلية الاقتصاد سليمان موصلي من أن "العقوبات لا ترفع بكبسة زر"، وأن وزارة الخزانة الأميركية علقت العقوبات 180 يوماً قابلة للتجديد، مما يعني أن أمام البلاد عاماً في الأقل لترتيب البيت من الداخل، وقال إنه يجب استثمار تلك المدة بصورة جيدة، مشيراً في حديثه إلى أن عودة سوريا إلى نظام "السويفت" العالمي وتحقيق الاندماج بالنظام المصرفي العالمي يحتاج إلى وقت وترتيب، وحتى الآن لم يدخل إلى النظام المصرفي السوري دولاراً واحداً من الخارج، باستثناء الأموال المتعلقة بالمنظمات. وكشف موصلي عن توافق بين "المركزي السوري" ونظيره الأردني على تحويل الأموال إلى سوريا عبر الأخير بموافقة من وزارة الخزانة الأميركية، بإتاحة تحويل الأموال من طريق البنوك الأردنية العاملة في البلاد، وعددها ثلاثة بنوك هي "البنك العربي" و"المصرف الدولي للتجارة والتمويل" و"بنك الأردن"، من أجل إعطاء النتائج المطلوبة لحين استكمال خطوات عودة سوريا إلى نظام "السويفت" العالمي.
المتحدث كشف في حديثه عن توجه لدى "المركزي السوري" بالإبقاء على سعر الصرف بين 5000 إلى 10000 ليرة للدولار الواحد، معرباً عن أمله في أن يكون هناك التزام بذلك وأن يكون سعر الصرف بهذا الاتجاه، مؤكداً أنه لا عودة إلى سعر 15 ألف ليرة للدولار الذي كان معمولاً به قبل سقوط النظام البائد، على رغم أن بعضاً يراه سعراً توازنياً، مؤكداً أن جزءاً من سعر الدولار هو نفسي والباقي اقتصادي حقيقي. وأضاف أن الحكومات السابقة كانت تثبت سعر الصرف بالقوة عبر ما سماه قانون منع تداول الدولار و"فرع الخطيب الأمني" أما اليوم فالحكومة الحالية وبعد سقوط النظام البائد لم يعد لديها "فرع الخطيب" ولم يعد هناك مجال لتحديد سعر الصرف بالإكراه بل أصبح سعره انعكاساً للعرض والطلب.
وتحدث موصلي عن نقطة مهمة هي أن غالب البنوك الخاصة تابعة لشركات مصرفية خارجية لبنانية وأردنية وخليجية، وتلك الجهات الشريكة كانت ممنوعة في السابق من المشاركة ضمن اجتماعات الجمعيات العمومية لتلك المصارف، أما اليوم أصبح بإمكانها الدخول والمشاركة وتقديم الدعم والمساعدة للبنوك السورية في أمور مختلفة تحتاج إليها، بما في ذلك مساعدتها على منح القروض ومعالجة الأموال المتعثرة. وقال إن سوق دمشق للأوراق المالية ستعود للعمل خلال الثاني من يونيو (حزيران) المقبل، وأن هناك خمس شركات وساطة خليجية تقدمت بعروض للعمل داخل البلاد، لكن الحكومة ستعيد النظر في رأس مالها المطلوب للترخيص، متوقعاً أن يكون هناك إقبال من الخليج للاستثمار في سوق دمشق للأوراق المالية. ورأى أن قدوم الاستثمارات إلى سوريا يتطلب من الحكومة ترتيب البيت الداخلي وتجهيز تشريعات وترتيب دخول المال القادم، وتجهيز القوانين المتعلقة بدخول وخروج الأموال والصناديق الاستثمارية، متوقعاً أن تشهد سوريا تنافساً كبيراً، وأن يكون هناك تأسيس لمصارف خاصة جديدة أو تأسيس فروع لمصارف أجنبية، إلى جانب دخول عدد كبير من شركات الوساطة المالية.
إصدار نقود بلاستيكية
بدوره، حصر عميد كلية الاقتصاد في جامعة "دمشق" علي كنعان المشكلة الرئيسة داخل سوريا حالياً في السيولة، وقال "نعاني تجفيف منابع السيولة ولدينا نقص حقيقي، لذلك نحن في حاجة إلى إعادة طباعة العملة، وأن تكون نقوداً بلاستيكية على التوازي مع إجراء إصلاح نقدي، وكي تتخلص سوريا من نقص السيولة يجب طباعة عملة جديدة حتى يكون هناك تحكم في الاقتصاد الوطني".
وأشار إلى أن سعر الصرف القوي لا يفيد في سوريا وأن تجربة تركيا خير دليل جراء التضخم الكبير بالليرة التركية، مشيراً إلى أنه يجب ألا نكون متفائلين برفع قيمة الليرة من 15 ألفاً إلى 5000 آلاف ليرة للدولار، مضيفاً "لدينا مشكلات في الاقتصاد من توافر الطاقة والعمالة الماهرة والإدارة"، مشدداً على ضرورة العمل على ملف عودة المستثمرين السوريين، لكن بعد تأمين البيئة المناسبة للاستثمار.
سوريا منطقة أعمال كبرى
أما أستاذ التحليل الجزئي رسلان خضور فوصف سوريا بأنها منطقة "أعمال كبرى"، وأن الجميع ينظر إلى البلاد من منطلق مصالحه الخاصة ومن زاوية الاستثمار بقصد الربح، مضيفاً "علينا أن نتنبه إلى أن المستثمرين الخارجيين يأتون لتحقيق مصالحهم، ولتحقيق التنمية والنهوض يجب ألا نعول على الخارج بقدر ما نعول على أنفسنا وعلى المستثمر السوري أولاً، وأن نتعامل مع الاستثمار الخارجي في نطاق حاجاتنا ومصالحنا، بالتالي على الحكومة السورية أن تبني رؤيتها للاستثمار المحلي بصورة احترافية وواضحة الأهداف، وأن تكون قادرة على رؤية النتائج التي تسعى لتحقيقها"، محذراً من انحراف الاستثمارات نحو القطاعات الريعية بينما البلاد في حاجة إلى إنتاج وبنى تحتية وخدمات أساس.
180 يوماً غير كافية
من جانبه، لفت نائب عميد كلية الاقتصاد في جامعة "دمشق" عبدالرزاق الحساني إلى أن التعافي المصرفي والعودة إلى نظام "سويفت" لا يمكن إنجازه خلال 180 يوماً، لأن الأمر يتطلب تنفيذ حزم واسعة من الإصلاحات والتحضيرات المتعلقة بالتدريب والتأهيل الفني والتعامل مع أخطار التشغيل وبناء شبكة المراسلين، وهو ما يحتاج إلى مفاوضات ولقاءات، وأن نكون مستعدين لرقابة المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي، إذ علينا أن نتأكد من بناء استقلالية النظام المصرفي بصورة جيدة، مشيراً إلى أن بقاء "قانون قيصر" العقابي سيؤثر في المؤسسات المالية. وأضاف "180 يوماً لتعليق العقوبات هي نافذة زمنية غير كافية لاقتصاد تعرض لدمار كبير وترميمه يحتاج إلى سياسات طويلة الأمد"، وقال "هناك مستثمر يريد القدوم إلى سوريا ليستثمر فيها لكنه لا يعلم إذا كانت الرخصة ستجدد 180 يوماً أخرى أو أن العقوبات ستُزال بصورة كاملة". وأشار إلى تأثير العامل السياسي في موضوع إزالة العقوبات، وعدم النجاح في تحقيق الشروط التي وضعت يمكن أن يؤدي إلى خضات سياسة وانعكاسات اقتصادية عميقة. وقال "كان يجب أن يكون تعليق العقوبات عامين في الأقل ومع تكثيف الجهود يمكن ترتيب الأمور بصورة أفضل، والاستفادة مما تتيحه رخصة وزارة الخزانة الأميركية".
وتابع "علينا أن ندرك التحديات الكبيرة التي نواجهها من انهيار في العملة المحلية، والتضخم عند مستوى مقلق، واحتياط البلاد من القطع المحدود جداً وربما يكون صفراً، وأزمة سيولة وحبس سيولة، إضافة إلى تقلبات سعر الصرف، وهذا لن يعزز الثقة في القطاع المصرفي، بالتالي حتى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لن يمنحنا قروضاً ومساعدات إلا وفق شروط تعليق العقوبات وخطاب النيات، أيضاً هناك عجز كبير في الموازنة والناس يلهثون وراء رواتبهم ولا يحصلون عليها إلا بشق الأنفس، كما أن ضبط الإنفاق كان سراً من الأسرار العليا في عهد النظام البائد، بالتالي لا ندري إذا كانت الحكومة ستفرج عن بيانات الإنفاق العام، أي نحن أمام حتمية تنفيذ إصلاحات واسعة تعتمد على الشفافية وهو ما سيشجع المستثمرين على القدوم والعمل في سوريا". ونصح بالتركيز على المستثمرين السورين في الداخل والخارج، وقال "هؤلاء لديهم خبرة مهمة جداً في التعامل مع مختلف الظروف، لكن وعلى رغم ذلك تبقى خطوة رفع العقوبات إيجابية لكنها غير كافية، وفي حاجة لنافذة زمنية طويلة ترافقها إصلاحات بنيوية في المصارف وترشيد الإنفاق العام".
اقتصاد قائم على التعاون بدلاً من القهر
عميد المعهد العالي للبحوث السكانية جمعة حجازي تساءل كيف يمكن للاقتصاد والمجتمع السوري تلقف رفع العقوبات عن سوريا اقتصادياً واجتماعياً، وبخاصة مع وجود تحولات جيوسياسية وتكتلات إقليمية جديدة. وما تحتاج إليه دمشق بحسب حجازي "اقتصاد قائم على التعاون، ويجب علينا كحكومة أن ننتقل إلى النموذج المرن في الإدارة وتعزيز الشفافية والمساءلة والكفاءة والفاعلية لمؤسساتنا الحكومية، من خلال إجراءات مالية أكثر شفافية". وأضاف "هل نحن في حاجة لبناء اقتصاد من أجل الدولة يخفف من العجز الحالي أو اقتصاد يحقق العدالة الاجتماعية ويدعم المجتمع ويخفف الفقر"، مشدداً على أن بلاده اليوم أمام فرصة تتاح لها بعد عقوبات مستمرة منذ عام 1979، لذلك يجب ألا تضيع الفرصة كما ضيعت آلاف الفرص.
اندبندنت عربية