سيرياستيبس
كتب عدنان عبدالرزاق
قلما
يخضع الاقتصاد، علماً وتعاطياً، للحدية والحسم كتلك التي يمارسها الساسة،
رغم الترابط الهائل بين السياسة والاقتصاد وتحريك كل منهما الآخر بالاتجاه
الذي يخدم الاستراتيجية والمصالح العامة. لأن الاقتصاد وبأبسط مفاهيمه
وتعريفاته، هو علم التدبير ومواءمة الدخل مع الإنفاق واستغلال أمثل
للإمكانات والفرص والموارد المتاحة، ووفق أعقد مفاهيمه، بعد طغيان الآلة
والتقنية، هو علم أرقام وسوق وقوانين، يفرض آليات ونظماً وأشكال علاقات، أو
حتى علم كئيب، كما يصفه البعض إن شئتم.
ولكن، على واقعيته وصرامته وحتى كآبته، يؤثر
منظروه وصناعه، الابتعاد عن الإطلاق والنفي، لأن التبدل المستمر، بالموارد
ومؤشرات الأرقام والنسب، يفرض تبدل بالمواقف والقرارات، حتى وإن مست الخطة
العامة للدولة، أي دولة. لكننا بسورية، ومنذ تحريرها وهروب النظام البائد
في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، نرى الإنطلاق بقضايا اقتصادية، سمة شبه
عامة وصيغة مستمرة لصناع القرار السياسي.
وهذه نقطة أولى ومهمة، يمكن الإشارة إليها
سريعاً، رغم عقابيلها الخطرة، فأن يسن الساسة قوانين الاقتصاد ويملي الساسة
أشكال التعاطي، فالمآل إعاقة ولا شك، إن لم نقل كارثة وتغيير مستمر
للقرارات والقوانين، ما يؤثر على السمعة والحريات وحتى استقطاب الرساميل
والاستثمارات، وربما المثال الأبلغ بالجارة تركيا، حينما آثر صناع السياسة،
وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب أردوغان، التدخل في صناعة القرار الاقتصادي
وتحديد نسب الفائدة والتحدث، باستمرار، في قضايا الاقتصاد والسياسة
النقدية.
وهذا لا يعني البتة ابتعاد الساسة وقادة
البلاد عن القرار الاقتصادي، بل يعني عدم التدخل بتفاصيل العمل الاقتصادي
وسن قوانينه وفق الرؤية، أو حتى المصلحة السياسية، ويعني رسم الساسة
والقادة، الملامح العامة والهدف البعيد، وترك أهل مكة يخططون لشعابها.
والمسألة الثانية، وهي مربط الفرس، أننا نسمع، وللأسف نرى ترجمة على الأرض،
لذاك الحسم، فأن يعلن القادة السياسيون ومنذ التحرير نهج اقتصاد السوق
و"لبرلة" البلاد، وهي بحال الخراب الكامل، فهذا يعني، فيما يعني، القضاء
على الصناعة الناشئة وتحويل سورية لسوق استهلاكية واقتصاد ريعي، ينتظر
موارد الثروات الباطنية ويكرر "يا ذا العطاء اسق العطاش تكرماً" ليجني ما
تنتجه الأرض.
أما بقية الحسم، فلن نقدم على الخصخصة
وهذا قرار، ففي ذلك الإطلاق ظلم أيضاً، للاقتصاد والعباد وإبقاء البلاد
بملامح الاشتراكية، وهو يتناقض مع الحسم السابق بتحويل النهج لاقتصاد حر،
فضلاً عن تعطيل وشلل، مواقع وإمكانات، لشركات وجدت أصلاً خلال نهج التحول
الاشتراكي، ولم تعد صالحة حتى بمعاقل الاشتراكية والشيوعية في العالم. فأن
تخطو سورية نحو الليبرالية ولديها منشآت لصناعة أقلام الرصاص أو العلكة،
فتلك هي السريالية الاقتصادية بأبهى أشكالها.
وكذا، وهو الأهم في ما نرمي إليه، لن نستدين
من الخارج ولن نمد يدنا للمؤسسات الدولية، من دون البحث في مصدر الدين
ومطارح استخدامه وخدماته، لتبقى "لن" شعاراً مقدساً غير قابل للبحث
والمقارنة أو حتى النتائج ومدى الحاجة. قصارى القول: ربما لا يصح البحث
بالاقتصاد، كما قلنا عند تعريفه، من دون الوقوف على أرقام وبيانات ومؤشرات
صحيحة، وكبرى المشاكل بسورية اليوم خلوها من قاعدة بيانات وإحصاءات تساعد
راسم السياسة على وضع خطة أو اتخاذ قرار، ما يعني أن ملف الديون السورية،
الخارجية أولاً، ملتبس ومتداخلة فيه مساعدات بقاء نظام الأسد مع أموال رهن
المقدرات السورية مع ديون غائية ومقايضات بسلع وشركات وثروات.
ولكن وفق ما قال وزير المالية في حكومة
تصريف الأعمال السورية، السابقة، محمد أبا زيد، فإن الدين الأجنبي للبلاد
يتراوح بين 20 و23 مليار دولار، فضلاً عن مليارات الديون المحلية. لكن تلك
الديون مؤجلة أو مشكوك في صحتها أو ربما موضع خلاف، لأنها لدول ساعدت بشار
الأسد في قتل السوريين وحلمهم وسخرت لآلة تهديم البلاد، وليست ديوناً لدول
خارجية "عدا روسيا وإيران" أو لمؤسسات مالية دولية، كصندوق النقد والبنك
الدوليين. والدليل ما قاله البنك الدولي وقت سوّت سورية ما عليها من
مستحقات في منتصف مايو/ أيار الماضي، حين سددت الشقيقتان السعودية وقطر تلك
المستحقات البالغة 15.5 مليون دولار، ضمن مساعي تلك الفترة المتزامنة مع
رفع العقوبات عن سورية وفتح الأبواب والطرق إليها، لتلتقط أنفاسها وتبدأ
بالإعمار والنهوض.
إذاً، سورية تكاد تكون دونما ديون خارجية
تُرهق اقتصادها بالفوائد والخدمة، وفي ذلك نقطة قوة عامل إضافي لسرعة
وصلابة الانطلاقة، ولا شكّ. ولكن نقطة قوة بالمفهوم العاطفي العام أو حسب
النظرة السلبية المكوّنة عن الديون وما سببته من ارتهان دول وإعاقة تطلعات
واستمالة قرارات، ونقطة ضعف في عدم استخدام الحصة بالبنك الدولي، وغيره من
الصناديق، عدا صندوق النقد الدولي الذي يفرض وصفاته قبل أن تصل الأموال
خزائن المصرف المركزي.
ويمكن إيجاز التعليل الذي يسوقه علم الاقتصاد ويتفق عليه المنظرون
والمتخصصون بأن التعاطي مع الدين يكون وفق توظيفه وعائداته ومدى الحاجة
إليه، بمعنى آخر، توظيف غير خدمي وترفي أو لتسديد ديون أخرى، فالسر المتفق
حوله يكمن في عائدات الدين الذي سيوظف بمواقع تنموية وإنتاجية، تشغّل
العمالة وتستثمر القيم المضافة للمواد الأولية، فتزيد الإنتاج والتصدير
وتوازن السوق، وتزيد العائدات عن خدمة وفائدة الدين، فهو أمر حميد، بل
ومطلوب.
ولكن، إن جرى توظيف الديون الخارجية بقضايا
خدمية أو تمويل الشق الجاري بالموازنات العامة، كتسديد أجور الموظفين
مثلاً، فهو طامة وكارثة، ستوقع المستدين بفخ الديون التي ستزيدها الفوائد،
ما يوصل للبيع والارتهان وربما أكثر. نهاية القول: بين لا للديون من دون
التعاطي الاقتصادي معها والبحث بفوائدها، أو حتى معرفة أن أغنى الدول تزيد
نسبة الديون فيها عن 30% من ناتجها المحلي الإجمالي، وبين لا للخصخصة وبقاء
بطالة مقنعة وآلات عفى عليها الزمن وإنتاج غير منافس وبمواصفات سيئة، لم
يزل سوريون بالمخيمات، بعد تسعة أشهر على تحرير سورية، ولم تزل نسبة الفقر
تصل إلى نحو 90% والبطالة أكثر من 80% رغم رفع جلّ العقوبات وتهافت
الاستثمارات، وإن نظرياً.
بل وأكثر، إذ تشير آخر تقارير برنامج الغذاء
العالمي إلى أن سورية تواجه شبح أزمة غذائية بعدما تسبب أسوأ جفاف منذ 36
عاماً في انخفاض إنتاج القمح بنحو 40%، لتزيد الضغوط على الحكومة التي
تعاني من نقص السيولة، ولم تتمكن من تأمين مشتريات بكميات كبيرة، وأن نحو
ثلاثة ملايين سوري قد يواجهون الجوع الشديد، ليضافوا إلى أكثر من نصف
السكان البالغ عددهم نحو 25.6 مليون نسمة، والذين بطبيعة الحال، يعانون
حالياً من انعدام الأمن الغذائي.
إذاً، وعوداً على بدء، لا حسم نهائياً أو
تحريم مطلقاً بالتعاطي الاقتصادي، كما يفعل الساسة أو يروق لهم أن يسحبوا
قناعاتهم وأداءهم السياسي على الاقتصاد، طبعاً، من دون الحدية على الحافة
الأخرى والدعوة لمد اليد وطلب القروض والمساعدات للهروب من الأزمات عبر
أزمات أكبر، وإن مؤجلة. فالاقتصاد وقراراته ينطلقان من الواقع والمفاضلة
والمصالح، والقرار يكون وفق الحاجة وما يخلص له الاقتصاديون، بعد البحث
والمسح والضرورة، وليس وفق ما يقوله رجال الدولة لتكريس نظرة ما أو إرسال
رسالة وتمرير موقف
العربي الجديد