يرى آخرون ضرورة عدم تقييد فكرة إعادة إعمار المساكن والمدن ومعالجتها، والعمل فوراً على وضع قوانين وقواعد وشروط واضحة وصحيحة للبناء والترميم وحتى الإكساء
وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة تحتاج سوريا إلى 400 مليار دولار لإعادة الإعمار، وقد يرتفع الرقم إلى تريليون دولار في ظل الحاجة لإعمار كل شيء نتيجة الدمار الكبير التي تعانيه البلاد في المدن والقرى والبنى التحتية والقطاعات الإنتاجية، إضافة إلى الحاجة إلى مشاريع كبرى في الطاقة والنقل والنفط والغاز وغيرها.
إلى ذلك، يبتعد بعض المتخصصين في توصيفهم لإعادة الإعمار من التركيز على موضوع السكن، ويطالبون أن تكون عملية إعمار المساكن مرحلة ثانية تظهر كنتيجة للمرحلة أولى تشمل مشاريع البنى التحتية والاستثمارات في القطاعات الإنتاجية صناعة وزراعة وسياحة ومشاريع نفطية ونقل وموانئ، وغيرها والتي من شأنها أن تخلق حركة واسعة لحركة الأموال بين الناس وتعزز من إمكاناتهم ومعيشتهم وتمكينهم من التوجه ليكونوا شركاء في عملية إعادة إعمار المساكن بينما تقود الدولة والقطاع الخاص عمليات بناء المدن والضواحي.
في المقابل، يرى آخرون ضرورة عدم تقييد فكرة إعادة إعمار المساكن والمدن ومعالجتها، والعمل فوراً على وضع قوانين وقواعد وشروط واضحة وصحيحة للبناء والترميم وحتى الإكساء.
مؤكدين أن ذلك من شأنه أن يخفف من وطأة مشكلة السكن التي تبدو متفاقمة جداً في البلاد مع وجود أكثر من 2.5 مليون مسكن في الأقل متضرراً في حاجة إما لإعادة بناء أو ولإصلاح وترميم، ومع وجود مشكلة أخرى في غاية الأهمية وهي وجود مليارات الدولارات مجمدة في أبنية على الهيكل بعضها يعود إلى عشرات السنين، إذ بدأت تشكل خطراً، خصوصاً في حالة حدوث زلازل والعوامل الجوية، خصوصاً مع تآكل الحديد في الأبنية، الأمر الذي يظهر بوضوح في الساحل السوري الذي سبق وتعرض لزلزال كبير قبل سنوات قليلة وجعل الكثير من الأبنية فيه "آيلة للسقوط ".
السوريون يجمدون مليارات الدولارات في العقارات
من جانبه، قال المتخصص في العقارات الدكتور عمار يوسف في حديث خاص إلى "اندبندنت عربية" إن "التعامل مع مشكلة السكن والإسكان على حد سواء يحتاج إلى التفكير من خارج الصندوق فمن جهة توفير فرص حقيقية للبناء والعودة، بينما من جهة ثانية فتح مجالات آمنة ومستقرة للاستثمار أمام الناس بحيث ينتقلون من الاستثمار عبر الاقتصاد الريعي إلى ميادين استثمار منتجة وأكثر عائدية وفائدة على الاقتصاد الوطني"، مشيراً إلى أن هناك أموالاً طائلة جمدها السوريون في المساكن والسيارات وهي بمليارات الدولارات، قد تصل إلى أكثر من 300 مليار دولار.
وأضاف "يجب التوجه فوراً نحو فتح آفاق رحبة للعمل والاستثمار وخلق حالة من الطمأنينة لدى الناس والمستثمرين بوجود بيئة عمل جاذبة بما في ذلك الاستثمار في المجال العقاري وإخضاعه لقوانين واضحة ومرنة وغير قابلة للاجتهاد وعصية على الفساد وإتاحة القروض وتأسيس مناطق تطوير العقاري بما يضع حداً لقلة الأراضي القابلة للبناء، والأهم هنا هو وضع خطط تطوير عمراني للمناطق المدمرة والعمل على تحويلها إلى تجمعات إسكان تتبع أساليب العمارة الخضراء وتعتمد على الطاقة البديلة والترشيد في استخدام الموارد، خصوصاً المياه".
وقدر يوسف كلفة إعادة بناء المساكن المدمرة في سوريا بنحو 110 مليارات دولار بشروط بناء اقتصادية وعصرية وعمارة خضراء معتمدة على مصادر طبيعية إضافة إلى 30 في المئة كلف إعادة البنى التحتية من كهرباء ومياه مع الأخذ في الاعتبار عنصر إعادة التدوير.
تدوير مخلفات الحرب
ويرى يوسف أن التعامل مع مشكلة السكن في سوريا مع ما تنطوي عليه من دمار كبير للمساكن بصورة كلية أو جزئية يحتاج إلى "أصحاب قرار شجعان".
ودعا إلى التفكير جدياً في إعادة تدوير مخلفات الحرب، إذ يمكن أن تسهم بـ20 في المئة من الكلفة في الكثير من المناطق المدمرة عبر إعادة الاستفادة من الألومنيوم والحديد والنحاس من الأنقاض في حين يمكن استخدام الكتل الأسمنتية والحجارة في عمليات ردم الطرقات والساحات وغيرها الأمر الذي من شأنه خفض الكلف وتأمين إدارة رشيدة خصوصاً في ظل محدودية الموارد.
وقدر يوسف عدد المنازل المتضررة في سوريا بـ2.5 مليون مسكن، منها 1.5 مليون مسكن مدمرة بصورة كاملة وتقع في نطاق بنى تحتية مدمرة والتعامل مع هذا الوضع يتم من خلال إنشاء مدن حديثة كاملة، لافتاً إلى أن مدناً كاملة تمت إزالتها خلال 14 سنةـ بينما المستوى الثاني يتعلق بالبيوت المدمرة بصورة جزئية ويمكن إصلاحها وترميمها والانتقال للعيش فيها فوراً، وغالباً تنتشر في الأرياف والمناطق الزراعية وهذه يمكن التعامل معها بطريقة اقتصادية، إذ يكون الهدف إعادة ربط الناس بالأرض على التوازي مع تحفيز الإنتاج الزراعي والاقتصاد الريفي، مقدراً عدد البيوت المدمرة بصورة جزئية من 700 ألف منزل إلى 750 ألفاً، مؤكداً أن نجاح معالجة هذا الشق من مشكلة السكن مرتبط بإعادة البنى التحتية من كهرباء ومياه ومدارس وغيرها.
حول المستوى الثالث من المساكن، أوضح يوسف "يرتبط بوجود منازل جاهزة فنياً للعيش فيها وعددها نحو 250 ألف مسكن، مستدركاً "لكن العودة إليها مرتبط بتوفير الخدمات وهذه عملياً هي المناطق التي تم تهجير الناس منها".
التوجه نحو السكن الاقتصادي والذكي
ودعا يوسف إلى ضرورة التعامل مع مشكلة السكن بطريقة ذكية يكون المواطن طرفاً، إذ يتم تأمين عمل جيد له وظروف إقراض محفزة وغير منهكة وهذا من شأنه أن يسهل دخول شركات التطوير العقاري بعد تهيئة ظروف عمل مثالية توفر الأمان والاستقرار في العمل، متوقعاً أن يستقطب قطاع العقارات مليارات الدولارات من مجموعات استثمارية عربية معروفة من الخليج ومن الدول المجاورة التي لديها خبرة كبيرة في إشادة التجمعات السكنية ومناطق التطوير العقاري، لافتاً إلى أن هناك مشاريع كبرى مرخص لإقامتها من قبل مجموعات استثمارية عربية من السعودية والإمارات وقطر والكويت، ولكن جمد تنفيذها بسبب الحرب، وبعضها كان قد بدأ فعلاً بالعمل ولكنها توقفت، وهذه يمكن أن تجد طريقها إلى التنفيذ عندما تصبح الظروف مناسبة.
وفي سياق متصل، أشار يوسف إلى ضرورة استقطاب الشركات المتخصصة بالسكن الاقتصادي الذي يشكل حلاً لعدد كبير من السكان، خصوصاً من ذوي الدخل المحدود، إذ كانت هناك محادثات جرت في هذا السياق مع شركات صينية وإيرانية من دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ.
وأكد يوسف أن السكن الاقتصادي الذي يحتوي على شقق بمساحات صغيرة 50 و70 متراً هي الحل الحقيقي لمشكلة السكن في سوريا في ظل ما تعانيه من التدمير وارتفاع في الكلف، شرط أن تتمكن الحكومة من صياغة دعم مناسب لهذا النوع من السكن عبر تقديم الأرض ومنح الإعفاءات وتوفير التمويل بقروض طويلة الآجل وبفوائد مدعومة.
وأضاف "اليوم لا مناص من العمل بجدية لصياغة حلول شجاعة قادرة على امتصاص أزمة السكن في سوريا بطريقة صحيحة، خصوصاً في المدن المكتظة في حين يجب إعادة النظر في كلف التراخيص والتنظيم في الأرياف لمساعدة الناس على بناء بيوت لائقة لها"، مشيراً إلى أن الضواحي الاقتصادية اليوم ليست في مساحات الشقق فحسب وإنما في تأمين البنى التحتية التي لا تقوم فحسب على الطرق والصرف الصحي ومد المياه والكهرباء بطريقة تقليدية بل بالحلول الذكية، خصوصاً ما يتعلق بإدارة وتوفير المياه والطاقة انسجاماً مع كلفها ومحدوديته، وبالتالي يمكن أن نسميها ضواحي اقتصادية وذكية.
وتوقع ألا يتأخر قدومها إلى سوريا، إذ إن المنازل الذكية لم تعد رفاهية في ظل ارتفاع أسعار الطاقة والمياه والخدمات بل هي خيار وحل يجب أن تتوجه إليه سوريا.
وأكد يوسف أنه على الحكومة السورية الجديدة أن تدرك جيداً أن لديها مشكلة سكن عميقة، وتحتاج منها إلى حلول شجاعة وليس إلى فرض رسوم وتقييدها بسلسلة من الإجراءات التي تنتهي بالعزوف عن البناء.
وقال "مشكلة السكن تربك أي دولة مهما كانت غنية، فكيف إذا كانت دولة خارجة من حرب كسوريا؟"، داعياً إلى ترك الناس يبنون بيوتهم عبر تقديم التسهيلات لهم.
أسعار العقارات في دمشق أغلى من طوكيو ولندن وباريس
وأضاف الدكتور عمار يوسف، أنه "لا يمكن التكهن بأسعار العقارات في سوريا إن لم يكن هناك استقرار اقتصادي، والقطاع العقاري يعاني حالياً من الجمود"، مؤكداً أن الأمر يحتاج إلى فترة ثبات طويلة للعملة المحلية وإلى استقرار وأمن سياسي واقتصادي، ومن دون ذلك لا يوجد مؤشر لارتفاع أو هبوط الأسعار بخاصة أن هناك توقفاً حالياً لعمليات البيع والشراء.
مشيراً إلى أن مشكلة السكن في سوريا مستمرة منذ عقود، حتى أصبح امتلاك مسكن في سوريا حلماً، في ظل الارتفاع الكبير في أسعار العقارات، وكذلك ارتفاع أسعار مواد البناء الذي عرقل البناء والإكساء، علاوة على تأثير تذبذب سعر الصرف ومحدودية الأراضي الصالحة للبناء والرسوم الكثيرة والمرهقة، حتى أصبح الموظف في سوريا يحتاج إلى ما لا يقل عن 200 سنة لتأمين مسكن له من دون أي إنفاق آخر؟ على حد تقديره.
وأضاف باعتبار أن التملك أصبح من الاستحالة بمكان، فكان خيار المواطن الاتجاه نحو الإيجارات التي يمكن توصيفها بالمرتفعة جداً، فانخفاض سعر العملة وغلاء المعيشة دفع أصحاب العقارات إلى رفع الأسعار وهذا من حيث المبدأ مقبول نتيجة ازدياد تكاليف الحياة بصورة كبيرة.
ورأى يوسف أن عودة اللاجئين السوريين، في حال كانت العودة للاستقرار، لن يكون لها أي تأثير في السوق العقارية من حيث الأسعار، إلا أن الإيجارات سترتفع من دون أدنى شك، مستدركاً "عدم استقرار الأوضاع الاقتصادية وغياب الخدمات، هذه عوامل طاردة وليست جاذبة للعودة إلى سوريا، فهناك أسر عادت ولكن كحالة تفقد للأوضاع، وليس للاستقرار".
وقال إن "عقارات دمشق هي الأكثر ارتفاعاً على مستوى سوريا، بل إن سعر شقة في منطقة المالكي أو تنظيم كفر سوسة هي أغلى من نظيرتها في لندن وطوكيو وباريس".
مؤكداً أن المنطقة هي التي تحدد أسعار العقارات والمساكن في سوريا، خصوصاً في ظل غياب مشاريع البناء والتطوير العقاري وبطء تنفيذ المرخص وتوجهها في السنوات الأخيرة نحو النخب، مبيناً أن أسعار العقارات بصورة عامة في بقية المحافظات أرخص من العاصمة دمشق، مثلاً في محافظة حمص وسط سوريا ينخفض سعر العقار فيها لثلث عقار دمشق، وفي حلب يصل إلى 60 في المئة من مثيله بدمشق، في حين تشهد المحافظات الساحلية ارتفاعاً أيضاً في عقاراتها، إذ تتراوح ما بين 35- 40 في المئة من عقار دمشق.
اندبندنت عربية