سيرياستيبس
توجه نحو تشغيل معامل الدولة وإجبار أصحاب الرخص على تنفيذ مشاريعهم، في وقت لا يغطي الإنتاج المحلي سوى أقل من نصف حاجة البلاد.
تواجه سوريا طلباً متزايداً على الأسمنت حتى قبل البدء بعملية إعادة الإعمار، وسط فجوة حالية بين الإنتاج والحاجات تصل إلى أكثر من 50 في المئة، تسدد عبر الاستيراد خصوصاً من تركيا والسعودية والجزائر والأردن ومصر.
يأتي ذلك وسط توقعات بأن يواجه الطلب على الأسمنت تزايداً كبيراً للغاية قد يفوق التوقعات، ويقدر خبير عقاري سوري حاجة المشاريع التي أعلن عنها أخيراً مع السعودية وقطر والإمارات لبناء أبراج ومولات ومشاريع سكنية واستثمارية ومطارات ومترو وجسور وغيرها، بأكثر من 200 مليون طن أسمنت خلال كامل أعوام تنفيذها، في حين يقدر مسؤول في قطاع الأسمنت أن يبلغ الطلب السنوي نحو 15 مليون طن، وقد يرتفع إلى 20 مليون طن سنوياً إذا ما تسارعت وتيرة تنفيذ المشاريع الإعمارية، مؤكداً أن الرقم سيكون مفتوحاً في حال البدء بتنفيذ كل تلك المشاريع الاستثمارية.
وبشكل عام تشير التقديرات إلى أن حاجات سوريا من الأسمنت ستكون ما بين 8 و9 ملايين طن مبدئياً في الأعوام الأولى لانطلاق عملية الإعمار، وسط الحاجة إلى تشغيل كل معامل البلد الحكومية والخاصة.
وتشير توقعات إلى إمكانية أن تبصر معامل أسمنت جديدة النور قريباً، بينما يجري العمل على صيانة معامل أخرى يمكن أن تعود إلى الإنتاج خلال أشهر قليلة.
مهلة أصحاب رخص معامل الأسمنت
يواجه قطاع الأسمنت في سوريا تحديات وصعوبات عديدة، تتعلق بارتفاع أسعار الكهرباء، ونقص مادة الـ"فيول" التي تشكل 65 في المئة من كلفة الإنتاج، إضافة إلى عدم توفر قطع التبديل ومستلزمات إعادة تأهيل المعامل وارتفاع كلفتها، مما انعكس على أسعار الأسمنت المنتج محلياً، ليراوح ما بين 100 و123 دولاراً للطن، بحسب النوع والمنطقة.
وتمتاز سوريا بأنها غنية بالمواد الطبيعية اللازمة لصناعة الأسمنت كالحجر الكلسي والطين والجبس، ولديها احتياطات تكفي الصناعة 75 عاماً، وهذا ما يجعلها أكثر ميلاً لإقامة مزيد من المصانع بالتوازي مع إعادة تشغيل المصانع المتوقفة، بخاصة التابعة للدولة وكلها قديمة، إلى جانب تطوير خطوط إنتاج جديدة تسهم في تلبية جزء من الحاجات.
وتحاول الحكومة السورية إعطاء أهمية خاصة لصناعة الأسمنت ومواد البناء نظراً إلى أهميتها، ولضرورة أن يكون هناك إنتاج محلي يحقق قيمة مضافة عالية في الصناعة السورية، بخاصة في مرحلة الإعمار، بما يقلل الاعتماد على الاستيراد ويوفر فاتورة سنوية بمئات الملايين من الدولارات. وفي هذا السياق ألغيت بعض الضرائب المفروضة على صناعة الأسمنت في القطاعين الخاص والعام لتعزيز تنافسيتهما، إلى جانب العمل على تأمين الطاقة لها بصورة مستمرة وبأسعار مشجعة.
وبحسب الشركة العامة للإسمنت وتسويق مواد البناء الحكومية، فإن قطاع الأسمنت محرر بشكل كامل مع اعتماد اقتصاد السوق الحرة، ووضع خريطة استثمارية لتوزع معامل الأسمنت الحكومية وطريقة تشغيلها وجدت أن هناك مناطق يجب إقامة معامل جديدة بها مثل عدرا ومسلمية، وهذه المعامل في حال إقامتها يجب أن تضاهي المصانع الموجودة في العالم، في حين ستشغل المطاحن في معمل الرستن قرب حماة ومعمل طرطوس.
تعرض معمل طرطوس المقام في الساحل وسط منطقة زراعية سكنية، تظاهرات قبل سقوط النظام مطالبة بإغلاقه نظراً إلى آثاره البيئية والصحية الكارثية.
إلى ذلك أعطت شركة الأسمنت مهلة لأصحاب رخص إقامة مصانع إسمنت خاصة وعددها 10 رخص، وطالبتهم بوضع جدول زمني لتنفيذ مشاريعهم، وسط توقعات بأن يبلغ إنتاج سوريا 40 مليون طن سنوياً في حال استأنفت كل المعامل الموجودة العمل، وتنفيذ المشاريع المرخصة.
تدرك الحكومة السورية أهمية ترميم الفجوة الإنتاجية ودعم القطاع العام كونه حجر الزاوية لأي استراتيجية مستقبلية، ويؤكد متخصصون في مجال البناء أنه يمكن للبلاد تحقيق اكتفاء ذاتي في مادة الأسمنت في حال اتبعت تخطيطاً استراتيجياً سليماً، وفتحت الطريق أمام عملية إعادة إعمار مستقرة واقتصاد متوازن قائم على الإنتاج المحلي لا الاستيراد، مؤكدين أن التوجه نحو خيار التوسع في الاستثمار بقطاع الأسمنت كونه قطاعاً رابحاً، أمر يستوجب تشجيع الاستثمارات الخاصة في هذا القطاع وتوفير مزايا تنافسية لها.
كم تحتاج المشاريع الاستثمارية من الأسمنت؟
يقول الباحث الاقتصادي والمتخصص في قطاع العقارات عمار يوسف لـ"اندبندنت عربية"، إن مشاريع الاستثمار التي أعلن عنها أخيراً مع كل من السعودية وقطر والإمارات كفيلة وحدها بابتلاع 200 مليون طن خلال أعوام تنفيذها وربما أكثر، مما يجعل من الاستثمار في صناعة الأسمنت أمراً ضرورياً ومهماً وحتمية تكريسه كقطاع رابح في البلاد، بخاصة أن هناك توفراً للمواد الأولية.
وأضاف، "تحاول معامل الشرق الأوسط، بخاصة في تركيا ومصر والأردن، وضع السوق السورية في حسبانها لتلبية الطلب المتزايد على الأسمنت خلال مرحلة إعادة الإعمار التي تكلف، من دون مشاريع السكن، نحو 400 مليار دولار بالحد الأدنى. وفي موضوع الإعمار تبدو كل الأرقام تقديرية، والمليارات ستأتي بمجرد انطلاق عجلة الإعمار والإنتاج والمال. وكلما كانت عملية الإعمار سريعة ومخططاً لها بصورة جيدة، وكانت ظروفها مناسبة، ستكون سوريا هدفاً للشركات والأموال والاستثمارات".
يوسف أكد أن سوريا مرشحة لتكون مركزاً مالياً واستثمارياً مهماً في المنطقة، لذلك فهي مهيأة لاستقبال استثمارات كبيرة ومهمة وأكثر بكثير مما أعلن عنه، مؤكداً أن كل ذلك مرتبط بتوفر جملة من الأمور تتعلق برفع العقوبات وتحقيق الاستقرار السياسي وتوفر الأمن الاقتصادي.
وقال إنه يتعين على الحكومة السورية أن تدعم صناعة الأسمنت ومواد البناء، وأن تخطط لانتشارها في البلاد بصورة محلية كي لا تتحول إلى سوق للمنتجات التركية وغيرها، مما يفقدها كثيراً من القيم المضافة وفرص العمل والاستقلال الاقتصادي، مشيراً إلى ضرورة إشباع قطاع صناعة الأسمنت وكامل القطاع الصناعي بحاجاته من الطاقة وبأسعار محفزة وتنافسية.
ولفت في هذا السياق إلى أهمية إيقاف بعض الضرائب التي كانت مطبقة على الأسمنت وضرورة التوجه نحو معالجة ملف تأمين الطاقة بأسعار مناسبة، مشيراً إلى أن عملية إعادة الإعمار لها أكثر من اتجاه، فالتركيز حالياً على بناء المشاريع الكبيرة التي تولد فرص العمل والإنتاج يبدو أولوية متقدمة على بناء المساكن التي تأتي في مرحلة ثانية، وكنتيجة لحركة الإعمار في المشاريع الكبيرة، بمعنى أن المهم تحقيقه كهدف أول هو خلق دوران حقيقي ومثمر ومؤثر لحركة رأس المال، الذي يمكن أن ينجم عنه تحسن في معيشة ودخل الناس، ومن ثم يمكن لاحقاً التوجه نحو بناء المساكن التي ستغير معها معادلة الطلب على الأسمنت وقد تفسح المجال لدخول شركات البناء المسبق الصنع سريعة الإنجاز وتحقق وفورات مهمة مقارنة بأساليب البناء العادية، إلى جانب كونها صديقة للبيئة.
ماذا عن الاستثمارات السعودية في قطاع الأسمنت السوري؟
في منتدى الاستثمار السعودي – السوري الذي أقيم الشهر الماضي بدمشق، أعلن عن مشاريع استراتيجية في صناعة الأسمنت عبر معمل الفيحاء الذي يوشك على البدء بالإنتاج بطاقة 150 ألف طن سنوياً وبكلفة 20 مليون دولار، ومخصص لإنتاج الأسمنت الأبيض، والأهم كان في الإعلان عن إقامة مصنعين لإنتاج الأسمنت الأسود بكلفة 500 مليون دولار.
متخصصون سوريون رحبوا بالاستثمارات السعودية التي تستهدف إقامة مصانع في البلاد، من بينها مصانع أسمنت، مما سيساعد قدر الإمكان في تقليل الاعتماد على الاستيراد لتغطية النقص، لأن الاستيراد خيار مكلف ويؤثر سلباً في الميزان التجاري واستقرار الأسعار المحلية، ويفتح الباب أمام تهريب أسمنت رديء يضر بجودة المشاريع ومتانتها.
وأكدوا ضرورة قيادة صناعة الأسمنت بصورة تراعي التشدد في الاشتراطات البيئية، كون الأسمنت يلوث الهواء والتربة والمياه، لذلك لا بد من اعتماد تقنيات حديثة مثل أنظمة ترشيح الغبار والطحن وإنتاج الـ"كلنكر" الأخضر، واستخدام الطاقة البديلة النظيفة، وصولاً إلى تحقيق التوازن بين الجدوى الاقتصادية والاشتراطات البيئية، الذي لا يتحقق إلا من خلال اعتماد اقتصاد الاستدامة.
ورأى مدير سابق في قطاع الأسمنت في حديث إلى "اندبندنت عربية" أن إعادة تأهيل المعامل الحكومية وتحديث خطوط الإنتاج ممكن ومتاح، ويجب عدم تأجيل الأمر، كون المعامل الحكومية تشكل الضامن الأساس للأمن الاقتصادي والصناعي، مشيراً إلى أن الشراكات مع القطاع الخاص أو الاستثمارات الأجنبية يجب أن تأتي مكملة للقطاع العام لا بديلة عنه، بحيث تسهم في رفع الكفاءة وسد الفجوة الإنتاجية وتقليل الاعتماد قدر الإمكان على الاستيراد، خصوصاً أن هناك معامل في المنطقة بدأت تنتج من أجل السوق السورية.
وتابع بقوله، "يجب ألا نرضخ لمواد البناء المستوردة بما فيها الأسمنت، فسوريا يمكن أن تمتلك صناعة مواد بناء متطورة وتسد الجزء الأكبر من حاجات مرحلة إعادة الإعمار"، لافتاً إلى أنه خلال أعوام الحرب توقفت بعض معامل الأسمنت وخرجت عن الخدمة، وأرخت أزمة الطاقة بظلالها على صناعة الأسمنت ورفعت كلفة التشغيل لتصبح 65 في المئة من كلفة الإنتاج، مما أدى إلى تعثر الصناعة وأضحت عاجزة عن تلبية الطلب المحلي.
تتوزع معامل الأسمنت في ريف دمشق وحماة وطرطوس، وهناك معمل للدولة في الرستن وحلب، وكل معامل القطاع العام قديمة وتعاني قدم المعدات وتراجع كفاءة التشغيل، ومعظمها متوقف حالياً باستثناء مطحنة تابعة لمعمل الرستن قرب حماة، بينما معمل عدرا الذي كان يعمل بكامل طاقته من 2500 إلى 2700 طن يومياً توقف أخيراً بسبب ارتفاع الكلفة.
أما القطاع الخاص فيملك معامل "الشهباء" و"الرصافة" و"العربية" و"لافارج الفرنسية"، وهذه كلها متوقفة، وأيضاً شركة "أسمنت البادية" في منطقة أبوالشامات أوقفت الإنتاج منذ 2023 نتيجة تعطل توريد الفحم الذي يعمل به، وكانت طاقته الإنتاجية تناهز 1.6 مليون طن سنوياً، وتعود ملكيته لمجموعة سعودية، وبحسب المعلومات هناك محاولات جادة لإعادة إقلاعه قريباً.
حالياً يراوح الطلب المحلي ما بين 20 و25 ألف طن يومياً، وتعاني البلاد من فجوة تقارب 4 ملايين طن سنوياً، والاستيراد يمضي بكميات كبيرة لمواكبة الطلب.
ويجري العمل على تجهيز عدة معامل جديدة وصلت نسبة إنجاز بعضها إلى 85 في المئة، ومن المرتقب أن يباشر مصنعان باستثمارات خاصة خارجية الإنتاج برخص قديمة، أحدهما بريف دمشق وآخر بريف حمص، وكل واحد منهما برأسمال 500 مليون دولار وبطاقة إنتاج 10 آلاف طن يومياً، فهل تنجح سوريا في إعادة تشغيل معامل الأسمنت لديها الخاصة منها والعامة، وتتمكن من تقليص الاستيراد؟ في الحقيقة ليس أمامها خيار آخر.
اندبندنت عربية