سيرياستيبس
ليندا تلي
سؤال بديهي يتبادر إلى الذهن حينما تدخل مؤسّسة أو شركة أو دائرة أو جامعة، مفاده أين الشباب الذكور مقابل هذه الكثرة الوفيرة من الإناث؟.
ظاهرة طفت على السطح وبات القاصي والداني يتحسّر على جيل كامل من الشباب طحنته الحرب وتسبّبت بتخلخل بنية المجتمع، حيث زادت نسبة الإناث وقلّ عدد الذكور، والكارثة الكبرى عزوف الشباب عن الزواج قسرياً، في غياب أي مبادرة أهلية أو مجتمعية وسبات كامل للجهات المعنية عن اجتراح الحلول وتقديم أبسط مقومات الزواج ألا وهو المنزل، فهل نلقى آذناً مصغية لدى المعنيين.
خرق التقاليد
ارتفاع المهور وسوء الأحوال المعيشية دفع الفتيات المقتدرات مادياً إلى خرق القواعد الاجتماعية بطلب الارتباط بالشباب، هذا ما حدث مع “ريم. م” بعد أن طلبت الاقتران بمّن أحبته وتحمّلت تكاليف الزواج كاملة من “البابوج للطربوش”، في حين عُقد قران العشرينية “ميس. س” من شاب عراقي بعد تعارف عبر الانترنت والسفر إليه رغم خوفها من المجهول الذي ينتظرها، على الضفة الأخرى وجدت نسبةٌ لا بأس بها من الشبان والشابات بما يسمّى “المساكنة” ملاذاً لهم للهروب من المسؤولية والالتزام في غياب القدرة على التفكير بالزواج.
كُرمى الأهل
الوضع المادي المزري في مرحلة طفولته وتدهور حالة والديه الصحية أجبر “بسيم. ع” على تأجيل فكرة الزواج، واليوم تكوّنت لديه قناعة تامة بالعزوف عنه كلياً، خاصة وأن قطار العمر سبقه رغم توافر كافة مستلزمات الزواج حالياً، مع تفضيله وجود الأنثى في حياته بصفتها صديقة لا زوجة، فيما رأى “محمود. م” أن التأخّر عن الزواج باب مستقبلي للعزوف عنه، حيث أُلقيت على كاهله وفي مرحلة مبكّرة من العمر مسؤوليات كبيرة كان من الواجب التفرّغ لها، وبالتالي كان قرار العزوف حتمياً!.
رضوخ وتأجيل
جيل بأكمله دفع فاتورة باهظة لسنين الحرب التي مازالت مستعرة في بعض المناطق، حيث لم يكن الخيار أمام “محمد. ح” بعد تخرّجه من كلية الإعلام سوى الهجرة لتأمين مستقبل آمن له، رغم رغبته بإكمال دراسته في الجامعة ذاتها، إلا أن سوء الحال المعيشي أجبره على السفر إلى مصر، وفكرة الزواج لازالت مؤجّلة بسبب الأزمات الاقتصادية العامّة في دول الجوار، وخوفه من المستقبل المجهول وعدم وجود الخيار المناسب للارتباط في المغترب، حتى لو خطر الموضوع في باله تنتابه الحيرة كغيره من أقرانه الشباب من أين يبدأ ومتى يتكلم، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على تعقيد أمر الزواج، بينما أقرّ الخمسيني “محمد. خ” بعدم قدرته على التفكير بالزواج، حتى لو اضطر الشاب للعمل في اليوم أكثر من 24 ساعة فلن يستطيع تلبية حاجيات البيت والخوف من الإنجاب والتكاليف الباهظة المترتبة عليه ستمنعه حتماً وتضع له حداً من التفكير في الارتباط، رغم امتلاكه المنزل بكامل عفشه وأثاثه.
مساكنة!
المحامي أكرم المحمود لفت إلى وجود ظاهرة “المساكنة” التي تعدّ بديلاً للزواج، وهي علاقة غير شرعية محرّمة قانوناً وشرعاً فهي كـ”الزنا”، رغم أن العلاقتين تتمّان برضا الطرفين، ولكن الظروف والأحداث وتقليد ومجاراة الدول الأخرى جعل البعض يتقبّل الفكرة، مع العلم أنّها مرفوضة لدى المجتمع السوري باعتبارها تحضّ على الفجور والانحلال الأخلاقي، معرجاً في سياق حديثه إلى أنّ ما أُثير في فترة سابقة عن فكرة تعدّد الزوجات كان بشكل ودّي وليس بشكل منظّم ومقونن في محاولة للقضاء على نسبة العنوسة، شرط توفّر القدرة على الإنفاق والعيش الكريم، حيث بلغت عقود الزواج في عدلية دمشق خلال النصف الأول من العام الحالي 7786 فيما بلغت 6890 العام الفائت أي بزيادة ألف حالة.
من جهته أوضح مدير الشؤون المدنية في دمشق بشار الخطيب أنّ واقعات الزواج المثبتة والمدخلة في الأمانة المركزية بلغت العام المنصرم 26961 واقعة، في حين سجلت 20700 واقعة منذ بداية العام الحالي حتى الآن، أي بتراجع ستة آلاف واقعة عن العام الفائت.
تأمين فرص عمل
وللتقليل من ظاهرة العزوف، اقترح الخبير الاقتصادي ياسر اكريم جملة حلول، منها: تأمين فرص عمل للشباب ليشعروا بالاستقرار النفسي، ورفع الرواتب والأجور لمختلف العاملين، مع ضرورة عدم وضع قوانين تعترض تطوير العمل، إذ إنّ أكثر القوانين في الاقتصاد هي قوانين جباية واستنزاف، ولا وجود لقوانين تشجيعية ومعونات، كأن يتمّ منح قرض لخريجي معهد متوسط لافتتاح ورشة، ومنح الشباب الذين يعملون بالزراعة قطعة أرض من ممتلكات الدولة بموجب عقود معينة، كما يجب على الحكومة إنتاج مشاريع تحسّن المداخيل ضمن مشاريع مشتركة مع القطاع الخاص.
أسرة متفككة
العزوف عن الزواج يؤثر على عجلة الاقتصاد لأنه ينتج أسرة مهلهلة ومتفككة وليس لها هدف استمراري، لذلك عدم الاستقرار يعطي عدم زواج، وهذا يؤدي إلى عدم استقرار اقتصادي ومكاني للأشخاص، وعندما يهاجر الشباب نفقد الكفاءات والمنتجين، وفق اكريم، وبحساب اقتصادي بسيط مهما كان الخريج أو العامل أو الفلاح بعمر الثلاثين لا يستطيع أن يكون دخله يناسب الصرف، فمثلاً إذا بلغ سقف الدخل مليون ليرة بينما الصرف يفوق الـ 4- 5 ملايين شهرياً، وهذا لا يسمح للشاب بأن يُقدم على أي عمل فيه صرف أو نفقة، منوهاً بمؤشر تحسّن ملحوظ من خلال طلب الشباب المغتربين زوجاتهم من بلادهم بعد أن استطاعوا تأمين مكان عمل وسكن آمن، متأسفاً على فقدان الأمل من موظفي الداخل الذين لن يتمكنوا من تكوين أو إعالة أسرة، وهذه معادلة صعبة الحلّ.
تيارات ما بعد الحداثة
الدكتور أحمد الأصفر أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق أرجع أسباب عزوف الشباب عن الزواج إلى ثلاثة عوامل أساسية، منها انحلال القيم الاجتماعية المرتبطة بالأسرة والزواج، ففي المجتمعات الغربية باتت الأسرة واحدة من المؤسّسات المعنية بتلبية الحاجات الفردية بالدرجة الأولى، ويمكن التخلي عنها ببساطة عندها يشعر أحد الطرفين بعدم حاجته إلى الطرف الآخر، وهو الأمر الذي بات معروفاً في المجتمع العربي بتيارات ما بعد الحداثة، ومن الملاحظات امتداد تداعيات هذه الثقافة إلى المجتمع العربي عامة، بما فيها المجتمع السوري، كما جعل قيمة الأسرة تتراجع كثيراً في الوعي الاجتماعي لدى الشباب من الجنسين على حدّ سواء، والشروط الاقتصادية والمعيشية للشباب وخاصة مع ضعف مستويات الدخل وقلّة فرص العمل والتفكير الدائم بالسفر والبحث عن حلول لمشكلاتهم بطرق جديدة مختلفة عن الطرق التقليدية دون النظر إلى ما يترتب على طرق تفكيرهم هذه من تعميق الأزمة وتضييق الفرص المتاحة أمامهم، دون أن ننسى مظاهر التفكّك الاجتماعي وغلبة القيم الفردية والنفعية، فضعف القيم الاجتماعية المرتبطة بالأسرة وحمايتها مع غياب الشروط الاجتماعية والمادية لاستقرار الأسرة دفع الكثير من أرباب الأسر إلى وضع قيود صعبة على تزويج بناتهم، مثل رقم قيمة المصداق المعجل والمؤخر، وبات التفكير بالزواج محصوراً بشريحة محدودة من الشباب التي وجدت لنفسها طرقاً مشبوهة للحصول على الثروة والمال.
هيمنة قيم نفعية
وتختلف ظاهرة عزوف الشباب عن الزواج بين الريف والمدينة، بحكم اختلافها في مستويات انتشار ثقافة ما بعد الحداثة، وفق الأصفر، ففي بعض القرى والأرياف يمكن أن يكون انتشار ثقافة ما بعد الحداثة أقوى من المدن، ولهذا يمكن أن تنتشر هذه الظواهر، فالريف بحدّ ذاته لا يشكل عاملاً من عوامل عزوف الشباب عن الزواج إلا بمقدار انتشار القضايا المشار إليها، ولا يزداد إقبال الشباب على الزواج إلا بمقدار تمسّكهم بأصالتهم الاجتماعية والثقافية التي تميّز مجتمعنا عن المجتمعات الغربية، حيث يسهم عزوف الشباب عن الزواج في تعميق مشكلة اغتراب الشباب عن مجتمعهم ودفعهم إلى المزيد من التفكير بالسفر والبحث عن العلاقات المشبوهة مع الجنس الآخر، ما يترتب على ذلك المزيد من التفكك الاجتماعي وهيمنة القيم النفعية، ذلك أن العوامل التي تؤدي إلى عزوف الشباب تعود إلى إعادة إنتاج نفسها مرة أخرى ولكن بشدة أكبر وأخطار أشد.
توزّع مسؤوليات
وعن علاج مشكلة العزوف، أكد الأصفر أنها لا ترتبط بجهة محدّدة ولا بقرار يمكن أن تتخذه مؤسسة ما، إنّما ترتبط بثقافة اجتماعية وافدة أولاً وشروط اجتماعية ومعيشية مشجّعة عليها، وتفكك اجتماعي سائد، ولهذا تتوزع المسؤوليات التي من شأنها معالجة المشكلة على عاتق الجهات والأطراف المختلفة على نحو واسع، فتسهم فيها الأسرة والمؤسّسات المعنية بفرص العمل للشباب وعوامل استقرارهم في المجتمع، وتوفير الشروط المناسبة للتعليم المرتبط بالعمل وغير ذلك من الاعتبارات.
المصدر:
http://syriasteps.com/index.php?d=127&id=199826