كتب الدكتور دريد درغام الخبير الاقتصادي وحاكم مصرف سورية سابقا :
يهدف هذا النص لصياغة مسودة حوار حول منع الاستقطاب المناطقي والديني وأهمية السلم الأهلي. وقد تم تقسيمه إلى محور سياسي واقتصادي واجتماعي. نأمل أن يفضي الحوار حول هذه المحاور لطمأنة كل السوريين للوصول إلى سوريا الحرة والآمنة التي يمكن لكل سوري حر أن يشرق فيها.
في المحور السياسي:
يرغب معظم مكونات الشعب السوري بتنوعها الثقافي، القومي، الديني أو المذهبي بدولة المواطنة، حيث يتساوى كل السوريين بالحقوق والواجبات. لذا من المفيد الحوار حول المبادئ التالية:
• طمأنينة السكان: كلما عملت الدولة على طمأنة من يسكن فيها وزوال خشيته منها زاد الولاء للوطن وزادت القدرة على تطوير القدرات الفردية وتوظيف الطاقات في خدمة المجتمع. ويمكن تحقيق ذلك بسرعة كبيرة عبر إجراءات جذرية منها:
أ. منع السؤال عن طائفة أي شخص فالطائفة الدينية ليست تهمة ولا يجوز السؤال عنها
ب. منع تجول المسلحين الملثمين منعاً باتاً في الشوارع والأبنية وحظر الزجاج العاتم لغير السيارات الرسمية.
ت. منع اقتحام المنازل دون وجود أمر من النائب العام وبوجود مختار المنطقة
ث. الانفتاح على الآخر واحترام قناعاته ومنع التعدي على أملاك وحرمات الغير ومنع التعرض للرموز والمقامات الدينية
ج. المساواة في معاملة جميع السجناء والمعتقلين في مختلف السجون في كل المناطق: يمكن عن طريق وزارة العدل فتح ملفات من تلطخت أيديهم بالدم السوري ومحاكمتهم وفق الأصول والممارسات السليمة بعيداً عن الأحقاد أو تصفية حسابات غير مبررة.
• تثبيت الحدود بشكل نهائي ووجود علاقة سليمة وآمنة مع الدول المجاورة (مثل لبنان) فالاستقرار يزيد حظوظها في استقطاب المستثمرين وإنشاء علاقات تجارية أفضل لمواطنيها.
• الجمهورية السورية: يلقى هذا التوصيف رضى جميع المكونات من عرب وأكراد وأرمن وشركس وسريان وآشوريين وغيرهم
• شكل الدولة ونظام الحكم: يفترض تكامل المناطق السورية بالموارد والثروات عدم قبول التقسيم أو تبني نظام كونفدرالية أو حكم ذاتي. وفي ظل التنوع بين التيارات المحافظة والتباينات المناطقية قد يكون من المناسب التفكير بنظام برلماني يقلص سلطات الرئيس ويسمح بحجب الثقة عن الحكومة عند اللزوم. وبما أن النسبية بالانتخابات يمكن أن تبخس حق أو مصالح بعض المناطق الصغيرة سيكون من المفيد مناقشة إنشاء مجلس شيوخ يسمح بتمثيل أفضل للمناطق الصغيرة ويضمن موازنة ما يصدر عن مجلس النواب بالقضايا المصيرية.
• نظام الانتخابات: سيكون من المفيد معرفة طريقة الانتخاب حول توزع الممثلين بين المناطق والتيارات أو كيفية الاختيار ضمن كل تيار أو منطقة بحيث يحدد الانتخاب على كل سوية (رئيس، نائب، شيخ) فيما إذا كان مباشراً أو لا أو من دورة واحدة أو دورتين وهل هو نسبي أم مجمعات انتخابية.
• اختصار عدد الوزارات والجهات غير الضرورية.
• السماح بأحزاب سياسية تقبل نقد برامجها السياسية وتحترم تداول السلطة حسب نتائج الانتخابات. مع ضرورة الشفافية فيما يتعلق بمصادر تمويل الأحزاب، وألا تنص أهداف أي حزب على تفرقة طائفية.
• مراجعة جميع التعاقدات والمعاهدات والمجالس الاقتصادية واللجان المشتركة المشكّلة سابقاً
في المحور الاقتصادي
• هوية الاقتصاد السوري:
لم تكن مشكلة سوريا في أي فترة توافر الموارد المالية وإنما كيفية استغلالها وتنميتها لمصلحة المواطنة والتناغم الاجتماعي. بعد تغير مفهوم الأمن القومي من التركيز على جبهات خارجية إلى التركيز على التحديات الداخلية لا بد من تحديد أوضح لهوية الاقتصاد السوري مع تزايد التنافسية العالمية.
• رفع العقوبات: تدل تجارب الدول المعاقبة سابقاً على أن العقوبات الغربية أو الدولية لا تلغى قبل مرور سنوات وعقود على انتفاء أسبابها (العراق مثالاً). يجب تجييش كل الجهود لإزالة العقوبات لتدفق الاستثمارات وتحسين التجارة.
• التعليم والتأهيل: تعاني سوريا من نقص في جودة خدمات الفنيين والمهنيين السوريين. في سوريا بنيت مؤسسات التعليم والتدريب على سياسة استيعاب لا تضمن فرصة العمل للطالب. ورغم تكلفة التأهيل المرتفعة لذا تستفيد دول الخارج من الخريجين الجيدين مجاناً ممن حصلوا على الخبرة والشهادات النادرة.
• دور القطاع الحكومي وضرورة اقتصاره على الخدمات (أمن وعدل وتعليم..) وإنتاج السلع العامة التي لا يقبل القطاع الخاص أن ينتجها (طرقات وسكك حديد وغيرها) في هذه الحالة سيكون لدينا وفر كبير بالنفقات وتسريع في حركة المرور وتبسيط للإجراءات. ولكن سنعاني من مشكلة البطالة.
• معالجة البطالة: تسبب البطالة مشاكل اجتماعية وتعتبر نقطة ضعف في إمكانية استقرار البلاد. يمكن حل مشكلة البطالة ومخاطرها على السلم الأهلي بصرف رواتب شهرية وفق السيناريو المذكور في معالجة موازنة الدولة أدناه. ويمكن اعتبار تلك الرواتب ضمانة قروض تنموية مدروسة.
• يعتبر السكن من أعقد مشاكل السوريين حيث تم تدمير جزء كبير من المساكن والأحياء. ولهذا تم أخذ تكلفتها بالاعتبار في تقدير تكاليف البنية التحتية وفق الشرح التالي.
• البنية التحتية: بشكل مبسط وتقريبي يمكن اعتماد التقدير التالي: كان الناتج المحلي الإجمالي لسوريا بجوار 50 مليار دولار وأصبح بجوار 15 مليار دولار. وبالتالي بلغ فوات الإنتاج على الشعب السوري خلال 14 سنة حرب 210 مليار دولار وتم تدمير بنية تحتية وممتلكات فردية ونهب ثروات بما يعادل 100 مليار دولار إضافية فتكون تكلفة الحرب على سوريا حوالي 300 مليار دولار. في السنوات الأخيرة تعاني معظم الدول المتقدمة من الناحية الاقتصادية ويوجد الكثير من الجبهات المفتوحة في العالم وجميعها بحاجة لإعادة إعمار. بضمانة الموارد والثروات المتاحة لا تحتاج سوريا بالضرورة إلى صندوق النقد الدولي وشروطه التي قد يفرضها. يمكن الاعتماد على المساعدات والقروض الطويلة الأجل من الدول الراغبة بالاستثمار في سوريا في مختلف منشآت البنية التحتية من طرقات وسكك حديد وكهرباء ومياه وصرف صحي وغيرها. ويمكن تقدير التكاليف (مع مبالغة بالتحفظ) اللازمة لإعادة الإعمار بحوالي 63 مليار دولار تتوزع على النحو التالي:
أ. قد نحتاج إلى 2000 كم من سكك الحديد ومثلها للاوتوسترادات بثلاث حارات ويمكن تقدير تكلفتها بحد أقصى ب4 مليون دولار للكيلومتر
ب. قد نحتاج 3000 كم من الشبكات الكهربائية ويمكن تقدير تكلفتها القصوى ب2 مليون دولار للكيلومتر
ت. ونفترض الحاجة لشبكات اتصال فايبر وغيرها مع مختلف مستلزمات الاتصال والأبراج ذات الصلة ستكون بجوار 500 مليون دولار
ث. قد نحتاج لمحطات توليد بطاقة 10 جيجا وات ونفترض أنها مع بنية تحتية للعدادات الالكترونية اللازمة وإعادة هيكلة قطاع الكهرباء ستصل إلى تكلفة قصوى 10 مليار دولار
ج. ولن تتجاوز تكلفة البنية التحتية للماء والصرف الصحي والمعامل الخاصة بالسماد والاسمنت في حال عدم تعهيدها للقطاع الخاص قيمة 10 مليار دولار
ولا يمانع السوريون تنفيذ إعادة الإعمار المذكور على مراحل شريطة ان يكون معلناً وبإدارة شفافة وسليمة. نقترح تركيز تدفق الأموال الواردة بالبداية على إنشاء البنى التحتية ضمن مخططات عمرانية ملائمة. وهذا سيسمح بالتحضير لبيئة أعمال ومعامل إنتاج مميزة يشارك بها طواعية كل من السوريين والعرب والأجانب في حال توافر البنية التحتية والقانونية والمصرفية وغيرها من متطلبات جذب الأعمال.
• إعادة رسملة المصارف وشركات التأمين وإصدار عملة جديدة وضرورة مصارحة الشعب بحقيقة النوايا القادمة بخصوص خطة التبديل وسعر الصرف. فالسوريون لا يمانعون المعاناة قليلاً طالما ان المستقبل بيد حكومة شريفة ترغب بخدمتها وليس العكس.
• السياسة الضريبية: يمكن الوصول إلى بنية ضريبية متوازنة من خلال إعادة الحكومة إلى دورها الطبيعي في إنتاج وصيانة السلع العامة والخدمات الأساسية من أمن وتعليم أساسي. وفي حال تسريح عدد المداومين يمكن تخفيف الضرر عن العائلات المعنية بالتسريح عن طريق راتب بطالة يسمح لها بفرصة عمل مع التعافي السوري المرتقب. وبغياب الفساد وتدعيم رواتب الموظفين المنتجين بالدولة يمكن الوصول إلى توازن جدي في موازنة الدولة حيث بالنسبة للنفقات:
أ. في حالة تخفيض التكاليف غير المبررة لانتشار الجهات الحكومية وشبه الحكومية والقطاع العام غير المنتج بحيث لا تتجاوز نفقات موازنة الدولة إلى 700 مليون دولار فقط (وهذا يعني أن تقتنع الحكومة بأن ضغط النفقات واجب عليها وليس على الشعب)
ب. يعتبر التسريح المكثف قنبلة موقوتة من حيث انتفاء موارد العيش لكثير من عائلات القطاع الحكومي التي فقدت أو ستفقد رواتبها والبيوت والسيارات التي كانت تخفف عنها نقص القدرة الشرائية. لذا اذا افترضنا أن الحكومة قررت نزع فتيل هذه القنبلة التي يمكن لأطراف خارجية أن تستغلها بسهولة. يمكن للحكومة أن تخصص راتب بطالة بجوار 30 دولار مبدئياً. وبفرض أن أعداد العاطلين عن العمل المتضررين بسبب الإجراءات الأخيرة أو من الحرب السابقة يصل إلى 2 مليون شخص (عائلة) يمكن تقدير النفقات السنوية المطلوبة بحوالي 720 مليون دولار سنويا.
ويمكن لراتب البطالة أن يزيد كلما تحسنت أوضاع البلاد فالشعب أولى بخيرات بلده من الحكام (التجربة السابقة). كما يمكن لذلك الراتب أن يلغى في حال تبين أن العائلات المستفيدة تمكنت من تحقيق إيرادات كافية نتيجة مشاريع أو حصل أفرادها على فرص ملائمة.
أما بالنسبة للإيرادات فيمكننا تقديرها بحدود دنيا لا تقل عن التالي:
أ. إذا وافقت جميع الفصائل والمناطق السورية على الانضواء تحت راية حكومة موحدة وجامعة فيمكن تقدير واردات سورية من تصدير الثروات النفطية والفوسفات وغيرها من الثروات الباطنية التابعة للدولة بما لا يقل عن 900 مليون دولار
ب. ويمكن تقدير واردات الدولة من الرسوم والضرائب وغيرها بما لا يقل عن 520 مليون دولار
في هذا السيناريو المبسط والذي بالغنا فيه بتقدير التكاليف والنفقات نجد أن توازن الموازنة العامة متاح بسهولة. لا بل يمكن أن تتحقق فوائض بدلاً من العجوزات إذا أضفنا إيرادات الاستغلال الأجود لأملاك الدولة المعطلة حالياً (مباني، أراضي..) فضلاً عما يمكن تحقيقه من استعادة الأموال المنهوبة والمجمدة. وإذا اقترن كل ذلك بمكافحة جدية للفساد المستشري في أوصال الدولة ستكون النتائج مبهرة للشعب السوري.
• إعادة الأموال والأصول المنهوبة والمسروقة والمجمدة إلى أصحابها
• جدولة عودة اللاجئين: من المفيد التنسيق مع الدول المعنية باللجوء للحصول على إحصائيات عن أعدادهم وخبراتهم بحيث تنظم تلك الدول عودة اللاجئين بالتدريج بما يحفظ كرامة مختلف الأطراف المعنيين بمسألة اللجوء.
في المحور الاجتماعي :
• التكاثر السكاني: فكثرة السكان نعمة في ظل أنظمة حكم فعالة وتصبح نقمة عندما تفشل السياسات الحكومية بالتنمية. كما يجب الحوار حول حقوق المرأة والطفل ومشكلة المعمرين فوق 60 سنة الذين يزيد عددهم عن 4 مليون شخصاً.
• الإدارة المحلية والجمعيات الأهلية: ضرورة تفعيلها وتخصيص كل محافظة ومنطقة بنسبة من الموارد التي تُنتَج في أراضيها أما الباقي فيكون من حصة الإدارة المركزية. ويجب تشجيع إنشاء الجمعيات الأهلية بعيداً عن الضغوط والوصاية التي كانت تمارس في ظل النظام السابق.
• الثقافة والسياحة والفنون: على الرغم من ثانويتها أمام القضايا الأكثر إلحاحاً إلا أنها ذات أهمية بالغة في نشر الوعي وقيم مواطنة والترويج للصورة الحضارية التي يجب أن تتمتع بها سوريا الجديدة، كما تسمح بتحقيق إيرادات نتيجة التنافسية المعروفة للقدرات السورية بهذا المجال إلى جانب إيرادات القطع الأجنبي الواردة من توافد السياح لزيارة المعالم التاريخية السورية ذات الشهرة العالمية. فضلاً عن ذلك، فإن الحياة الثقافية الحيوية والحرة من شأنها أن تطرح قضايا الوعي المجتمعي لساحة النقاش العام وتعرضها للحوار الوطني في مختلف الساحات والأوساط وذلك من خلال الندوات والأعمال الدرامية والسينمائية والمسرحية واللقاءات التلفزيونية عموماً، وحرية التعبير في وسائل التواصل الاجتماعي.
خاتمة:
نقدم هذا النص للنقاش بحيث يتحول بالنهاية إلى برامج عمل لخطط فورية وخمسية أو آفاق عمل تصل إلى العام 2050. وبذلك نرسم سياسة وطنية طويلة الأمد تضمن لسوريا موقعها الأوضح في خريطة العالم المليء بالمتغيرات والتسارع التقني. فالهدف الأول والأخير هو إشراقة الشعب السوري بكل مكوناته والوصول إلى مجتمع متناغم بأفكاره بعيداً عن روح التخويف التي كان يعتمد عليها النظام البائد. وهنا نجد أن أي برامج عمل قصيرة أو طويلة الأمد يجب أن تكون في إطار ترسيخ المواطنة ومنع الاستقطاب المناطقي والديني للوصول إلى سوريا الآمنة والمزدهرة وهي الوطن الذي يتوق له كل سوري حر.