تجارب في العدالة الانتقالية .. دروس وعبر
درغام يقرأ في تجارب مختلفة من راوندا الى الجزائر والمغرب وغواتيمالا ز. وحتى لبنان ..





دمشق - سيرياستيبس :

ضمن سلسلة منشورات نوعية  يواظب الدكتور دريد درغام حاكم مصرف سورية سابقا والاستاذ الجامعي على تقديم تجارب عميقة للواقع النقدي والاقتصادي في قراءة عميقة للاسباب والنتائج والأهم استطاع تقديم الحلول .. 
وكان لافتا تقديمه لسلسة مقالات ترصد تجارب عدد من الدول في  العدالة الانتقالة  ونجاحها في تحقيق المصالحة  الوطنية بناء على فهم المصالح العليا للدولة 

سيرياستيبس تنشر مجموعة التجارب التي استعرضها الدكتور دريد درغام

النموذج الرواندي للمصالحة والنمو والتداخلات العرقية والسياسية

  المصالحة في رواندا: رواندا بلد مؤلف من (عرقين) قبيلتين رئيسيتين الهوتو والتوتسي. اعتمد الألمان وبعدهم البلجيك في حكمهم على أقلية التوتسي. بعد الاستقلال عام 1962 سيطر الهوتو على الحكم وتصاعدت التوترات القبلية إلى أن انفجرت عام 1994 حيث اغتيل الرئيس (من الهوتو). حينها كان عدد السكان حوالي 7 مليون منهما 85% من الهوتو. بدأت حملة إبادةٍ منظمةٍ من رجالات الدولة ومن العصابات التابعة لها ضد التوتسي. فتم خلال 100 يوم إبادة حوالي 700 ألف من التوتسي ولم يبق منهم سوى 230 ألف. وتم إبادة جميع الهوتو المعتدلين الذي اعترضوا على المجازر أو ساعدوا في إنقاذ جيرانهم التوتسي. في عام 1998 تم إعدام 22 ممن ثبت عليهم ارتكاب المجازر. بعد المجازر عانت رواندا من فوضى عارمة فأجبر الرئيس بيزيمونجو للاستقالة عام 2000. وانتقلت السلطة إلى زعيم الجبهة الوطنية الرواندية بول كاجامي مع أنه ينتمي إلى أقلية التوتسي التي أبيدت وكان قد شارك في الاقتتال الداخلي. واجهت الحكومة تحديًا كبيرًا بالتعامل مع العدد الكبير من المتهمين الذين احتجزوا في السجون لصعوبة البت بقضاياهم من قبل القضاء التقليدي. فابتكر الروانديون محاكم "الغاشاشا" عام 2001 لمعالجة جرائم الإبادة الجماعية وانتهت عام 2012 وأغلقت أبوابها بعد إدانة أكثر من 65,000 مجرماً من الهوتو والتوتسي ثبت عليهم ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية. ورغم وجود حكم الإعدام كان أقسى حكم هو السجن من 25 إلى 30 سنة بهدف العدالة ومنع تكرار الجرائم. ولتسريع الإجراءات تم اللجوء إلى طريقة مبتكرة في التعامل مع المجرمين حيث:
i. كانت القيادة السياسية والقضاء الأعلى مسؤولين عن تسمية مرشحين بناء على سمعتهم كأشخاص شرفاء يتمتعون بثقة المجتمع كي يصبحوا قضاة في الغاشاشا. أما الاختيار النهائي للقضاة فكان من قبل المجتمع المحلي أو مجلس مختص وليس من الحكومة، كان الهدف ضمان عدالة واستقلالية القضاء. وكان يراعى قدر الإمكان أن يكونوا مزيجاً من الهوتو والتوتسي لضمان السلم المجتمعي.
ii. كان عدد القضاة وسطياً بين 9 و25 حسب الحاجة وعدد القضايا المعروضة. وكان النساء يشكلون 30-40% من عدد القضاة. وتم تعيين المحاكم في القرى والمناطق التي تمت فيها المجازر. وحسب الحاجة كان يتم تعيين قضاة من الأشخاص الشرفاء من القرى المجاورة.
iii. لم تبنى المحاكم على فكرة العقاب، إنما الاعتراف بالخطأ والتكفير عنه بخدمة المجتمع، وسن قوانين صارمة تعتبر الخطاب العنصري جريمة. وفرض برامج خاصة لإعادة تأهيل المتورطين في الإبادة. وأعادت الحكومة تقسيم المحافظات، حتى تعزز قيم المواطنة، وتلغي فكرة القبيلة.
iv. تم تدريب القضاة على إدارة المحاكمات وكيفية التعامل مع الشهادات والأدلة وتم تزويدهم بإرشادات تضمن نزاهة الأحكام والعدالة ومن هذه الارشادات:
1. شفافية المحاكمات في جميع إجراءاتها بما فيها الاستماع إلى الشهود والأدلة
2. المشاركة المجتمعية حيث يتوجب على المحكمة دعوة جميع أفراد المجتمع الأهلي للحضور والمشاركة
3. تهدف المحاكم لتحقيق العدالة والمصالحة بين المتخاصمين وتحقيق السلم الأهلي
4. تدريب القضاة المحليين على إدارة المحاكم والتعامل مع الشهود والأدلة
5. ضمان تنظيم المحاكمات بفاعلية تضمن تحديد المهام والمسؤوليات لكل فرد
v. كانت المحاكم مفتوحة للجميع بهدف معالجة جرائم الإبادة المرتكبة من كلا الجانبين. وكانت المحاكم تعتمد على الثقافة التقليدية للمصالحة، حيث يجلس الطرفان المتنازعان على العشب ويتم الاستماع إلى الشهود وتصدر الأحكام بناءً على تفاهم المجتمع.
vi. لعبت الشرطة دورًا مهمًا لإحضار المتهمين والتعامل معهم في تنفيذ أوامر الاعتقال والأحكام والحفاظ على النظام والأمن خلال جلسات المحاكمة.
وبغض النظر عن بعض السلبيات أو الاتهامات تجاه كاغامي حول انفراده بالسلطة، فَهِم الروانديون من خلاله أن التفرقة والعنصرية والصراع ستزيد من الحروب والتقهقر، فصدر دستور يلغي الفوارق العرقية واستثمر كاغامي في العنصر البشري وخاصة النساء اللواتي أصبحن المعيلات باعتبار أن معظم ضحايا المجازر كانوا من الرجال، ومن بقي منهم لاذ بالفرار خارج البلاد وركز على التعليم الذي زادت نسبته من الموازنة لتصل إلى 25% وتحول بالتعليم من الفرنسية إلى الإنكليزية وأصبح التعليم المجاني 12 عاماً. وأصبحت الأولوية للمدرسين الجيدين وليس الأكثر قدماً. وركز على الزراعة والتعاونيات وتوفير قروض ميسرة شجعت على زراعة وتصدير الشاي والبن. فارتفع إنتاج القهوة خلال سنوات قليلة من 30 ألف طن إلى 15 مليون طن. وبقدوم مليون سائح سنويا أصبحت السياحة الطبيعية ثاني مصدر للدخل.
 
 
 تجارب في العدالة الانتقالية (  لمن يهمه أخذ العبر)


  المصالحة في لبنان: 

كما في كل الدول النامية، عرف لبنان تأثير خلافات الدول الخارجية عليه عبر تأجيج الطائفية. وهذا الأمر معروف في فترة ما قبل أحداث 1860 وفي فترة المتصرفية ولاحقاً أثناء الانتداب. أما بعد الاستقلال فقد لعب التوتر بين التيار الناصري والغربي دوراً كبيراً في أحداث 1958 وفي استدعاء القوات الأمريكية لمدة 3 أشهر انتهت بإقناع الرئيس شمعون بالاستقالة لصالح الرئيس فؤاد شهاب الذي كان له دوراً مهماً في تحييد الجيش عن الصراع المسلح الذي دار بالشوارع. وبعد نكسة 1967 وأحداث أيلول 1970 في الأردن، خضع لبنان للتوافق العربي على نشاط منظمة التحرير الفلسطيني في جنوب لبنان. وبإضافة المشاكل الاقتصادية وغياب عدالة التوزيع بين المناطق اللبنانية كانت الظروف مهيأة للحرب الأهلية التي بدأت عام 1975 وأنهت في 1990 بعد اتفاق الطائف. ذهب ضحيتها 120 ألف ضحية وعشرات آلاف المشردين وأكثر من مليون نازح. في عام 1991 أ اصدر البرلمان اللبناني قرار عفو عن كل مرتكبي جرائم الحرب، وفي أيار 1991 تم حل الفصائل المسلحة وسلمت أسلحتها ما عدا حزب الله. نظراً لنقص التمويل والفساد وبغياب آليات فعالة للعدالة الانتقالية، كانت التعويضات قليلة ويشوب توزيعها شيء من الغموض. رغم النهضة الاقتصادية التي تحققت في لبنان منذ التسعينيات حتى انهيار المنظومة المصرفية، أبقت المصالحة الشكلية على الضغائن ولم يتحقق السلم الأهلي الحقيقي وبقيت التجاذبات حتى تاريخه.



  المصالحة في الجزائر:

 عانت الجزائر من استقطاب شديد بين العرب والأمازيغ الذين طالبوا بحقوق ثقافية وإعلامية وعارضوا سياسة التعريب التي بدأت في بداية الثمانينيات. وبدأت المجموعات الإسلامية ببعض الإزعاجات تجاه محلات المشروبات الكحولية والنساء السافرات. وفي الثمانينيات شارك الكثير من الجزائريين في جهاد أفغانستان ضد السوفييت. وإثر تردي المستوى الاقتصادي (انخفضت أسعار النفط إلى الثلث) وارتفاع المعارضة للميول الغربية، تكاثفت الإضرابات الطلابية والعمالية وأدت إلى فرض حالة الطوارئ أحياناً. وبعد سقوط الحكم الماركسي في أفغانستان، عاد كثير من المجاهدين الجزائريين إلى بلادهم ودعموا الحراك الإسلامي. قام الأستاذ الجامعي الإسلامي المعتدل عباسي مدني (من محاربي التحرير ضد فرنسا) بتأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ عام 1989، بالتشارك مع علي بلحاج (شاب أصغر سناً ولكن بميول متشددة لا تعترف بالديمقراطية وتعتبر أن مصدر السلطة هو الله عبر القرآن وليس الشعب). في الانتخابات المحلية فازت الجبهة على الحزب الحاكم في 1991 (188 مقعدا من أصل 232). بعد سنة اعتقل قادة الجبهة وبدأت أول مجازر ضد الجنود الجزائريين. وقام الجيش بإلغاء نتائج الانتخابات بعد أن تبين له في بداية 1992 أن الجبهة بطريقها للفوز بالانتخابات التشريعية أيضاً وانقسم أعضاؤها حول مفهومهم للديمقراطية. وفرض الجيش سيطرته وجيء بالمناضل المنفي بوضياف لتولي منصب الرئاسة. فتم اغتياله بعد ستة أشهر. فحُظِرت الجبهة واعتُقِل آلاف من عناصرها وظهر متمردون كثر في التلال والجبال. وتزايدت التحركات المسلحة بعد اغتيال أكاديميين جامعيين ومثقفين وكتاب وصحفيين وأطباء بتهمة التعاطف مع النظام أو التحدث بالفرنسية. وتبين أن الجبهة ليس لديها القوة الكافية لكبح جماح المسلحين (ومنهم مجاهدين خدموا في أفغانستان ومنهم من جاء من مصر من تيارات منبثة من الإخوان المسلمين المصرية ولكن مع تطرف أكبر بعد إعدام سيد قطب)، وبعضهم طرد الشرطة فاعتبرت المناطق إسلامية محررة. ولم يهدأ هؤلاء رغم فتاوى الجبهة ودعوا إلى قتل أي موظف حكومي بما فيهم المدرسين والصحفيين. وفي 1993 خلت الجزائر من الأجانب بسبب إنذار المسلحين وعانى الجزائريون بسبب منعهم من الحصول على التأشيرات للخروج من البلاد وارتفعت أعداد المهاجرين غير الشرعيين. ثم بدأت تتالى المجازر في الأحياء والقرى المناوئة للجبهة مع تزايد أعداد الضحايا من الطرفين. وبدأ رجال الأعمال الجزائريون بتخفيض دعمهم الطوعي إلى المسلحين حيث تحول الدعم تدريجياً إلى ابتزاز صريح أدى إلى إفلاس بعضهم أو هجرتهم. ونظراً لعدم كفاية الجيش تم إنشاء مجموعات الدفاع عن النفس. ومع تزايد العنف غادرت معظم وكالات الأنباء. وتزايد صراع الجماعات المسلحة فيما بينها ووسعوا أعمالهم إلى عمليات عنف داخل فرنسا. ولم يميزوا في مجازرهم بين مدني أو طفل أو امرأة. فتزايدت قناعة الغرب بأن الحكومة هي الوحيدة القادرة على كبح المسلحين خاصة بعد خيبة أمل الجزائريين من تزايد العنف والابتزاز باسم الجهاد. وفي عام 1999 اتفق الرئيس الجديد بوتفليقة مع الجبهة على نزع أسلحتها مقابل العفو العام عن المسلحين الذين لم يرتكبوا أعمال قتل أو اغتصاب حيث نال ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الثقة في استفتاء عام موافقة الشعب. وفي السنة التالية أطلق سراح مؤسسي الجبهة. وانخرطت الجماعات المسلحة بالمصالحة باستثناء الجماعة السلفية للدعوة والقتال (التي انضمت عام 2003 إلى القاعدة).  ذ‌. المصالحة في العراق: يبلغ عدد سكان العراق 46 مليون والناتج المحلي حوالي 250 مليار دولار؛ منه 65% من قطاع النفط ومعظم الباقي خدمات؛ أما حصة الزراعة فشبه مهملة ومع ذلك يعمل فيها خِمْس العراقيين. مع أن رئيس الوزراء العراقي أكد في موازنة 2024 أن نسبة الإيرادات غير النفطية قد تضاعفت، ما تزال الواردات النفطية تهيمن على موارد الحكومة (حوالي 90%) بوجود عجز بنسبة 20%؛ فالاقتصاد ريعي ولم يتمكن من الخروج من الاعتماد على العوائد النفطية (حالياً 2.5 مليون برميل يومياً مقارنة ب3.5 بالسبعينيات). ورغم حجم الموارد الكبيرة مقارنة بسورية، ورغم مرور سنوات على سقوط البعث والحرب الأهلية، ما تزال مشاكل الفقر والبطالة والصحة والتعليم والفساد تنغص معيشة العراقيين.
بعد سقوط نظام البعث العراقي في عام 2003، اعتمد العراق "الديمقراطية التوافقية" و"المحاصصة الطائفية" في توزيع المناصب مما زعزع السلم المجتمعي. بغياب الوعي تجاه أهمية القانون ومع انتشار الفساد والمحسوبيات، أدت المحاصصة إلى تعزيز الانتماء للعشيرة والقبيلة على حساب المواطنة وضمان حقوق مختلف القوميات والأقليات والمذاهب. وبعد قتل وتهجير ملايين العراقيين قبل سقوط البعث العراقي، أدت الحرب الأهلية إلى قتل مئات الآلاف وتشريد وتهجير المزيد من الملايين. في 2006 أعلن عن انشاء اللجنة العليا للحوار والمصالحة الوطنية كما حرمت فتوى السيد السيستاني في عام 2007 سفك الدم العراقي. ولغايات المصالحة تزامن إنشاء مجالس الصحوات مع تطبيق خطة الحكومة لفرض القانون وفي عام 2019 أنشأت الحكومة لجنة التعايش والسلم المجتمعي لتعزز التماسك المجتمعي والعمل على عودة النازحين. وزادت المشاكل عندما انتشر تنظيم داعش في 2014. وتم الانتصار على التنظيم بتعاون الحكومة والمرجعيات الدينية والحشد الشعبي. وقد وضعت برامج عديدة بتعويضات أقل من 7 آلاف دولار لكل من ضحايا النزوح والتهجير الإرهاب والفساد وغيرها. ولكن لا يوجد إحصائيات مؤكدة حول الأعداد والمستفيدين وطريقة التوزيع.
ونظراً للتباين بين تكلفة انتاج النفط في جبال الشمال مقارنة مع الجنوب، لا بد من الإشارة إلى الخلاف المالي في العراق بين إقليم كردستان والحكومة المركزية حيث أن خطر عدم تعويض الفرق يهدد بدعاوى محتملة من الشركات المنتجة والدول المرتبطة بنفط كردستان (أدى توقف ضخ النفط عبر سورية إلى اعتماد العراق للتصدير عبر الأراضي التركية).
 
 
 المصالحة في المغرب: 

أنشئت هيئة لعدالة والإنصاف عام 2004 من قبل الملك محمد السادس للتحقيق في حالات الاختفاء والعنف الذي جرى من قبل الدولة في الفترة بين 1956 و1999 (سنة وفاة الملك الحسن الثاني والد الملك الحالي). أكدت اللجنة اختفاء 742 شخصاً. وكان الهدف استمرارية النظام بعد التصالح مع الماضي واغلاق ملف الانتهاكات في مرحلة حرجة تمهيداً لإصلاحات واسعة واستعادة ثقة الشعب بمؤسسات الدولة بما فيها الأجهزة الأمنية. ووزعت اللجنة ما يقرب من 85 مليون دولار من التعويضات لـ9799 من المتضررين، ولكن دون الكشف عن هويات موظفي الدولة المتورطين في حوادث سوء المعاملة الماضية. كما لم تمتلك اللجنة سلطة إجبار الأفراد على الشهادة في أي من جلسات الاستماع العامة السبع التي نظمتها في أنحاء البلاد.
د‌. المصالحة في البوسنة والهرسك: من مناطق متفرقة إلى مملكة قبل ثمانية قرون دامت أقل من 90 سنة حيث فتحها نشر العثمانيون الإسلام فيها. وتتألف من ثلاث أطراف وهي البوشناق المسلمون أصبحوا الأكثرية ثم الصرب فالكروات. بعد رفض الأعيان فرمانات السلطان محمد الثاني الذي طلب منهم التخلي عن مزاياهم لإجراء إصلاحات، تتالت التمردات وهذه المرة من الفلاحين نتيجة زيادة الضرائب (عام 1875). فجاءت الضغوط الدولية عام 1878 لإجبار السلطنة على التنازل عن البوسنة والهرسك إلى الامبراطورية النمساوية المجرية. وهنا بدأ الصراع على تقاسم المزايا بين الصرب والكروات على حساب المسلمين وخاصة البوشناق حيث زج بهؤلاء في الحرب العالمية الأولى. ورغم أن ضحاياهم وصولا إلى 300 ألف في حرب لا علاقة لهم بها، وجدوا أنفسهم في دولة يوغوسلافيا التي تشكلت بعد انهيار الإمبراطورية التي كانت تحكمهم. بعد سقوط الكتلة الشرقية أعلن كل من سلوفينيا وكرواتيا استقلالها فوقعت البوسنة والهرسك في حيرة من أمرها بوجود ثلاث مكونات: صرب (أصروا على البقاء في يوغوسلافيا) وكروات وبوشناق (رغبوا بالاستقلال) فانطلقت الحرب العرقية في نهاية 1991. بعد أشهر قليلة، أنشأ الصرب مجلساً خاصاً ثم جمهورية خاصة بهم. تلاهم الكروات بخطوات مماثلة بينما حاول البوشناق التأكيد على وحدة بلاد البوسنة والهرسك. وسرعان ما أغضب اعتراف المجتمع الدولي باستقلال هذه البلاد عن يوغوسلافيا غضب الصرب الذين استولوا على ثكنات الجيش بدعم مالي ولوجستي من دولة صربيا المجاورة وذلك للاستيلاء على اكبر قدر ممكن من الأراضي. فتم قتل 200 ألف وتهجير أكثر من 2 مليون من البوشناق فضلا عن كل أنواع الانتهاكات المرافقة. وكانت المفاجأة بانضمام الكروات إلى حملات التطهير وإنهاء التوافق السابق مع البوشناق. ورغم القرار الأممي في شباط 1992 لإنشاء قوة أممية وحماية السكان وتقديم المساعدات وحظر الطيران، تم انتهاك القرار بالعديد من المذابح فتدخل الناتو بمشاركة 15 دولة في آب 1995 ونجم عنها اتفاقية ديتون في تشرين الثاني 1995 التي وضعت أسس الدولة الجديدة وكيفية محاكمة مرتكبي الانتهاكات وتوثيقها والحفاظ على حقوق الانسان. ولا بد من التذكير بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا التي بدأت عام 1993 وولم تنه أعمالها قبل 2017. أما اتفاقية ديتون فقد أكدت على تناوب سدة الرئاسة كل 8 أشهر بين الرؤساء الثلاثة للمكونات العرقية. وتم منح رجال الدين دوراً مهماً في شرح ما حدث للسكان والاعتبار من الماضي. حالياً يعتمد الشعب على التبادلات الاقتصادية بين المناطق لرأب الصدع الكبير على أمل الوصول إلى المصالحة السياسية الجدية بين مختلف المكونات.
يتبع...


  
 المصالحة في غواتيمالا:

 أنشئت لجنة غواتيمالا في عام 1994 بعد اتفاق سلام توسطت فيه الأمم المتحدة، حيث أنهى الاتفاق 36 عاما من الحرب الأهلية بين الحكومة وتحالف جيش الفقراء ومنظمة الشعب المسلحة وحزب العمل. مُنِحت اللجنة ولاية واسعة شملت سلطة التحقيق في الانتهاكات. ووُضِع في "دستورها" وجوب محاكمة الجرائم التي يرتكبها العسكريون في المحاكم المدنية وليس العسكرية (تم سجن 130 ممن تورطوا بانتهاك حقوق الانسان أو جرائم منظمة بينهم رئيس سابق ووزير دفاع واثنين من كبار مسؤولي الشرطة والجيش). وأفصح تقريرها النهائي عن مسؤولية قوات الدولة والجماعات التمردية علي أكثر من 90% من حالات الاعدام التعسفي والاختفاء القسري وعن 200 ألف قتيلاً نتيجة الصراع. أوضحت اللجنة ان هناك حوالي 42,275 ضحية من بينهم رجال ونساء واطفال، وكان هناك اعتقال تعسفي لحوالي 23,671 ضحية للإعدام التعسفي و6,159 نتيجة الاختفاء القسري معظمهم من شعب المايا. وأُقرّت تعويضات مادية وجبر ضررٍ وإعادة تأهيل. واعتذر الرئيس نيابة عن الحكومة ومنح تعويضات لأكثر من 1000 عائلة وبعض التعويضات لم تصرف إلا بعد حوالي 20 سنة من تاريخ المجازر التي ارتكبت. ولا بد من التذكير بأن تلك العدالة لم تتم بشكل سهلٍ حيث جرى أكثر من 300 اعتداء عنيف على القضاة والشهود ووكلاء النيابة المعنيين بتلك العدالة الانتقالية. ومع ذلك فقد لعبت دوراً مهما بمحاكمة بعض المرتكبين بعقوبات شديدة وساهمت بتفكيك مؤسسات تسلطية.



 المصالحة في كولومبيا: 

عانت كولومبيا لأكثر من ستة عقود من صراع مسلح طويل دار بين الحكومة ومجموعة من المقاتلين والقوات شبه العسكرية، مما أدى إلى مجموعة واسعة من انتهاكات حقوق الإنسان شملت الاختفاء القسري، والاختطاف، والنزوح القسري والعنف الجنسي. وفيما بين 2012 و2016، أجرت الحكومة الكولومبية محادثات سلام مع القوات المسلحة الثورية في كولومبيا (FARC)، والتي كانت أكبر جماعة حرب عصابات يسارية في البلاد. وبعد ضغوط قوية من مجموعات وجمعيات الضحايا، اتفقت أطراف المفاوضات في النهاية على معالجة مطالبات الضحايا كجزء أساسي من شروط أي تسوية محتملة. تم تشكيل لجنة الحقيقة عام 2016 لحصر ضحايا الاختفاء القسري، وتحليل توافق إجراءات مقترحات السلام مع احتياجات الضحايا المتعلقة بالحقيقة والعدالة والمصالحة. وكانت قطر بين الدول التي قدمت دعمًا ماليًا وتقنيًا لتعزيز السلام في البلاد. ولكن للأسف رغم مرور 8 سنوات، ما تزال تنتشر الاشتباكات أحيانا ويستمر نزوح عشرات الآلاف أو هجرة بعضهم إلى دول الجوار؛ كما أن الأمور معلقة بين الحكومة وجهات معارضة تتهمها بعدم الإيفاء بوعودها مثل فرض الأمن والأمان وتأمين سكن لعناصر قوى المعارضة. ت‌. المصالحة في تشيلي: أُنشئت اللجنة التشيلية الوطنية للحقيقة والمصالحة عام 1990 للتحقيق في الوفيات وحالات الاختفاء التي وقعت خلال 17 عاما من حكم بينوشيه. كُلّفت اللجنة بجمع المعلومات مع أنها لم تزود بسلطة الحصول على الأدلة من العسكريين السابقين أو الوصول الى السجلات العسكرية وتم تعيين نصف اللجنة من مؤيدي بينوشيه الذي (بعد تنازله عن الرئاسة لإيلوين) واصل عمله بصفة القائد العام للجيش. كشفت اللجنة كيف قتلت القوات الحكومية 2115 شخصاً، وقدمت أدلة على أساليبها بالتعذيب. وفي بضع سنوات زاد تقرير اللجنة عن 1000 صفحة مع توصيات منها رد الاعتبار للضحايا، وتخصيص 10 كانون الأول لاستذكار المأساة والاعتبار منها (بما فيها بالمدارس) مع حملات توعية عامة لتدعيم المصالحة الوطنية، واستصدار ما يلزم من تشريعات لحل مشاكل ذوي الضحايا بما في ذلك إعلان وفاة المفقودين، مشاكل الميراث والزواج وتقاسم الملكيات، وتأمين السكن والرعاية الاجتماعية والدراسة وحقوق قبض تعويض منفرد أو رواتب تقاعدية لمن يستحق، والإعفاء من الديون الحكومية المترتبة على الضحايا. واعتذر الرئيس آيلوين علناً لضحايا جرائم الدولة وأنشأ عدة صناديق للتعويض لهم أو لأفراد أسرهم.
ث‌. المصالحة في الارجنتين: بناء على أفكاره حول حقوق الفقراء والعدالة الاجتماعية استلم خوان بيرون عام 1946 رئاسة الأرجنتين واستمر صراعه مع قوى اليمين (الجيش والكنيسة وطبقة أصحاب الشركات) حتى وفاته عام 1976 حيث انقلب اليمين على الديمقراطية وقرروا تحت شعار ودعاية "محاربة الإرهاب" الانتهاء من اليسار وأنصاره بعمليات اعتقال واسعة (عشرات مراكز الاعتقال في كل مدينة) وإلغاء الأحزاب. وساعدهم بذلك فتاوى الكنيسة ودعم الولايات المتحدة والتدريب الأمني على استجواب وتعذيب المعتقلين على يد فرنسيين وأمريكيين. وظل الوضع كذلك 7 سنوات حتى هزيمة النظام اليميني امام الجيش البريطانى فى الفوكلاند. تأسست اللجنة الوطنية للمفقودين عام 1983 من قبل الرئيس الارجنتيني ألفونسين للتحقيق في حالات الاختفاء القسري وحالات التعذيب، وسمح للقضاء التقليدي بمحاكمة القيادات السابقة كلها وإصدار الإدانات (بمن فيهم رئيسين سابقين). وزاد عدد الدعوات ليحاكم القضاء مسؤولين بمراتب أقل، مما تسبب بأعمال عنف من بقايا النظام السابق. خشية الانفلات الأمني أوقف الرئيس مسار المزيد من المحاكمات. أما الرئيس منعم فقد أصدر عفواً عن الجميع. وهذا ما زاد من خيبة الحقوقيين وعائلات الضحايا. ولكن في 2001 و2003 قامت المحكمة العليا والرئيس كريشنر بإلغاء مراسيم العفو لعدم دستوريتها. جمعت اللجنة بيانات ضخمة عن المتضررين، وأصدرت تقريرا نهائيا من 50 ألف صفحة بعنوان “لن يتكرر هذا أبدا”. حدد هذا التقرير 365 مركز اعتقال سري، بالإضافة إلى أسماء 9 آلاف مختفٍ. كما أصدرت الدولة عدة قوانين تمنح التعويضات لبعض الفئات من الناجين وأفراد أسر أولئك الذين لقوا حتفهم خلال الصراع. حالياً تعتبر تجربة العدالة الأرجنتينية قصة نجاح ورمزاً لانتصار المجتمع المدني.
للاطلاع على مقالات الدكتور دريد درغام الدخول الى الرابط التالي :
https://www.facebook.com/profile.php?id=100076396704997
 



المصدر:
http://syriasteps.com/index.php?d=110&id=200948

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc