تبدو الثقة بالمنظومة المصرفية السورية على المحك اليوم، بعد تراجع ثقة المتعاملين بالمؤسسات المصرفية.
والأمر ليس وليد شهر أو شهرين من الزمن، بل عبارة عن تراكم إدارة خاطئة
للقطاع، واستخدامه كأداة لتنفيذ سياسات مرتبكة.. إلى جانب تراجع الدور
التنموي للبنوك في سوريا، كل هذا أدى إلى آثار يصفها النقديون
بـ”الكارثية”، بدأت تظهر نتائجها على شكل شبه ” قطيعة” بين المتعاملين – أي
الجمهور – مع البنوك، إن كان مواطناً عادياً بسيطاً، أو رجل أعمال
أومستثمراً.
المشهد غير مطمئن كما يراه خبراء الاقتصاد والنقد والبنوك، وكل العاملين في
القطاع المالي، لأنه يؤثّر على منظومة هي الأهم في أي اقتصاد، بما أنها
المحركات الدافعة فعلاً للتنمية.
فكيف يمكن أن تعيد سوريا الثقة بالقطاع المصرفي ؟
أساس تنموي
يعود الدكتور علي كنعان أستاذ النقد والمصارف – عميد كليّة الاقتصاد في
جامعة دمشق، في إجابته عن تساؤل ” الحرية”، إلى البعد النظري في عمل البنوك
والسوق المصرفية عموماً، ويرى أن المصارف عماد التمويل في الاقتصاد
الوطني، لذلك ركزت حكومات الدول المتقدمة على دعم وتطوير المصارف بغض النظر
عن ملكيتها، سواء كانت مملوكة للدولة أو للقطاع الخاص.
د. كنعان: المصارف السورية الخاصّة لم تستطع منذ بداية الثورة تكوين تجربة مصرفية خاصة واعتمدت على تجارب المصرف الأم ” المساهم التأسيسي”
وتعتبر أكبر الشركات المصرفية عالمياً شركات مساهمة، لذلك ركزت الحكومات على زيادة رأسمال هذه المصارف بهدف تجنب الأزمات، وأجرت بعض التصنيفات عالمياً.. فيقال:” الـ 25 مصرفاً الأولى في العالم أو الـ 100 مصرف الأولى في العالم والتصنيف الأخير الـ 1000 مصرف الأولى في العالم، لأن هذه المصارف تجمع الودائع من المواطنين وتعيد إقراضها للمقترضين أو الشركات الصغيرة أو المتوسطة أو حتى الكبرى منها، وبذلك تولد النمو الاقتصادي.
ارتباط خارجي
بالنسبة للسوق السورية يضيف د. كنعان: نشأت المصارف السورية الخاصة في
بداية الألفية الثالثة، وتحديداً في عام 2004، ولم تستطع خلال هذه الفترة
القصيرة ومنذ بداية الثورة تكوين تجربة مصرفية خاصة، بل اعتمدت على تجارب
المصرف الأم ” المساهم التأسيسي” إما لبناني أو أردني أو قطري أو بحريني،
بينما المصارف السورية قديماً كانت تهتم بالمنتج والتاجر بهدف تحريك النمو
الاقتصادي، لذلك نشأت الثقة بين المصرف والزبون استناداً إلى قروضه
وإيداعاته.
د. كنعان: البنوك الجديدة قامت بتوظيف إيداعاتها في الخارج بهدف زيادة أرباحها وهذا ما أدى إلى عدم تحقيق رسالة المصرف التنموية
وكثيراً ما لاحظنا – الكلام للدكتور كنعان – أن البنوك الجديدة قامت بتوظيف إيداعاتها في الخارج بهدف زيادة أرباحها، وهذا ما أدى إلى عدم تحقيق رسالة المصرف التنموية، أي إن المصرف يسعى إلى الترويج من جهة والتنمية وتطوير المجتمع من جهة ثانية، فالتركيز على توطين مدخرات السوريين في الخارج أدى لزيادة أرباح المصارف الخاصة، لكنها لم تحقق النمو الصناعي والتجاري الذي كانت تقصده الحكومة ٱنذاك، فشكلت جزءاً من أزمة اقتصادية بدأت مع الاحتكارات في أيدٍ قليلة في عام /2006/, وبدأت الثقة تتراجع فيما بين المودع والبنك والمقترض والمقرض من جهة أخرى.. وكان البنك المركزي يصدر قرارات توفيقية من دون سياسة نقدية واضحة المعالم.
هروب المدخرات والإيداعات
يكشف عميد كليّة الاقتصاد في جامعة دمشق، عن أن بعض البنوك “الخاصّة”،
الجديدة قامت بتوظيف إيداعاتها في الخارج بهدف زيادة أرباحها، وهذا ما أدى
إلى عدم تحقيق رسالة المصرف التنموية لأن المصرف يسعى إلى الترويج من جهة
ثم إلى تنمية وتطوير المجتمع من جهة ثانية، فالتركيز على توظيف مدخرات
السوريين في الخارج أدى إلى زيادة ارباح المصارف الخاصة، لكنها لم تحقق
النمو الصناعي أو التجاري الذي كانت تقصده الحكومة ٱنذاك، فشكلت جزءاً من
أزمة اقتصادية بدأت مع تركز الاحتكارات في أيد قليلة في عام /2006/ وبدأت
الثقة تتراجع فيما بين المودع والبنك من جهة والمقترض والمقرض من جهة أخرى.
د. كنعان: على المصرف المركزي أن
يولي أهمية كبيرة للمصارف ويعيد لها الحرية في استقبال الودائع ومنح القروض
بالطريقة التنافسية.. بل يتوجب على “المركزي” أن يلزم البنوك لتوظيف
مدخراتها في القطاعات الصناعية والحرفية والتجارية
وكان البنك المركزي يصدر قرارات توفيقية بدون سياسة.. نقدية واضحة
المعالم، ولكن هل هذا يدعم الإنتاج والنمو الاقتصادي أو يدعم التسويق
وتصريف الخدمات ومساعدة الشركات الأجنبية، هذا إلى أن بدأت الثورة وكانت
جزءاً وسبباً من أسبابها.. وخلال مرحلة الثورة ويتساءل الدكتور كنعان هل
بقيت الثقة موجودة ؟
ليؤكد أن الثقة تراجعت كثيراً بسبب التضخم الكبير الذي حصل وقيام المواطنين
بتحويل مدخراتهم إلى القطع الأجنبي أو ذهب ومجوهرات أو اتجهوا نحو شراء
العقارات وبالتالي – والكلام للدكتور كنعان – عانت المصارف من نقص السيولة
وتراجع الملاءة المالية من عام /2011/ إلى /2016/ وتوقفت عن تقديم القروض
للمواطنين والشركات وهذا ما أدى إلى زيادة حدة التراجع في الإنتاج
والتسويق.
خريطة طريق التعافي
الآن.. ماهي الآلية التي يمكن استخدامها لعودة الثقة إلى النظام المصرفي في سوريا ؟
يرى الدكتور كنعان أن هذه الآلية تتوقف على عدد من الإجراءات النقدية
والمصرفية والقانونية، أولها كما يرى الدكتور كنعان أن يولي المصرف المركزي
أهمية كبيرة للمصارف، ويعيد لها الحرية في استقبال الودائع ومنح القروض
بالطريقة التنافسية، بل يجد أنه يتوجب على المركزي أن يلزم البنوك لتوظيف
مدخراتها في القطاعات الصناعية والحرفية والتجارية.
د. كنعان: المطلوب عودة سعر الصرف أو تبديل العملات من خلال المصارف وليس شركات الصرافة
أما الإجراء الثاني الذي يعول عليه عميد كليّة الاقتصاد لاستعادة الثقة
بالنظام المصرفي، فهو عودة سعر الصرف أو تبديل العملات من خلال المصارف
وليس شركات الصرافة، لأن صرف العملات أو مبادلتها هو جزء أساسي أو مهم من
عمل المصارف وشركات الصرافة تقوم به جزئياً وبمبالغ بسيطة.
فيما ذكر أن الإجراء الثالث الذي يجب القيام به، هو أن يقدم البنك المركزي
على تفعيل قانون النقد الأساسي (قانون المصارف) والقرارات التي أصدرها كي
يلزم البنوك على القيام بأنشطتها المصرفية الحقيقية وليس الوهمية (تمويل
منشآت حرفية.. إقامة المصانع.. تمويل النشاط الإنتاجي قصير الأجل.. تمويل
التصدير.. المشاريع الإنتاجية).
إضافة إلى ضرورة استخدام المنافسة المصرفية لجذب الودائع، وإعطاء مزايا لكل
نوع من أنواع الودائع لهدف تشجيع الادخار وهذه الحالة – والكلام ما زال
للدكتور كنعان- موجودة في كل أنحاء العالم إلا في سوريا.
شرط الزمن
يؤكد الدكتور كنعان أن إعادة الثقة إلى العمل المصرفي لا تحتاج زمناً
طويلاً، أقصى حد لها ستة أشهر والعمل بإجراءات جديدة، لأن السياسة النقدية
تعمل بفترة قصيرة فتحرك سعر الفائدة أو إصدار إجراءات جديدة أو تفعيل ما هو
موجود من إجراءات وقرارات ثم تفعل خلال ستة أشهر وتنطلق المصارف من جديد
فلا يجوز التأخير في تفعيل وتنشيط العمل المصرفي مقارنة بالخدمات المعطلة
أو الإنتاج المعطل أو عملية إعادة الإعمار، لأنه كما ذكرنا السياسة النقدية
سريعة وتعطي آثارها خلال فترة قصيرة ونحن على ثقة بأن تجاوز هذه الصعوبات
التي تحدثنا عنها ستعيد الثقة إلى العمل المصرفي فوراً.
إجراءات هدّامة
أما الخبير المصرفي أنس الفيومي، فيجيب عن سؤال ” الحريّة” برؤية قريبة ومن
صلب أداء السوق الراهن، ويرى أنه لابد في البداية من الإشارة إلى أن عمل
المصارف حساس جداً ويتأثر سريعاً بأي حدث سياسي واضطراب معين، وحتى أنه
ممكن أن يتأثر بشائعة منتشرة لذا نقول إن تراجع الثقة بالمصارف السورية
يعود لأسباب كثيرة أهمها:
– إجراءات حبس السيولة أو عدم توفرها والقيود المفروضة على السحب والتحويل
حتى على مستوى الرواتب الموطنة لدى هذه المصارف، والتحويلات الضرورية لعمل
التجار.
الفيومي: الفساد المنتشر ولاسيما
في المصارف العامة بطريقة مرضيّة متجذرة بدءاً من الإدارات العليا إلى
العاملين العاديين لتسهيل تلبية متطلبات البعض تسبب في الخلل الراهن
– توطين رواتب العاملين بالدولة من دون توفير عوامل أمان لسحب أرصدتهم،
ما جعلهم يأخذون فكرة سلبية عن عمل المصارف نتيجة ما يعانونه في سحب هذه
الرواتب.
– القرارات المتتالية للحكومات المتعاقبة وإدارة مصرف سورية المركزي والتي
بدأت مع استنزاف أرصدة القطع الأجنبي ثم ابتعاده عن واقع السوق، ما عمق
الهوة بينه وبين السوق السوداء.
– القضاء على الكفاءات المصرفية عبر اللجنة ٣٥٢ من مجلس الوزراء بحجة
القروض المتعثرة، ما حجّم عمل إدارات المصارف وقيد قدرتها على اتخاذ أي
قرار.
– ابتعاد المصارف عن العمل المصرفي الاحترافي وتحولها إلى صناديق إسيداع وسحب.
– الفساد المنتشر ولاسيما في المصارف العامة بطريقة مرضية متجذرة بدأ من
الإدارات العليا إلى العاملين العاديين لتسهيل تلبية متطلبات البعض.
الفيومي: دعم الكوادر المصرفية الموجودة وخلق محفزات لهم وإعادة تقييم أدائهم للتخفيف من حالة الفساد المنتشرة
وغيرها الكثير من الأسباب الكثيرة والتي يمكن أن نبدأ بذكرها منذ نهايات القرن الماضي ولكن أوردنا أهمها وفق معطيات المرحلة الحالية.
عودة الثقة بشروط
يرى الخبير الفيومي أن الثقة المفقودة بعمل المصارف يمكن أن تعود مع زوال
الأسباب التي أدت إلى فقدانها، “إن لم نبالغ بكلمة فقد”, لكن عادة ما تعود
الثقة بحذر وهذا يحتاج لسنوات عديدة كما جرى عقب أحداث عام 2005 وسحب
ايداعات المصارف خوفاً من تطور أحداث وتبعات اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق
الحريري، رغم قصر الفترة لاستقرار الوضع إلا أن المصارف احتاجت لعامين
بعدها حتى تستقطب الإيداعات مجددا ولولا محفزات المصارف في تلك الفترة من
قروض استثمارية واستهلاكية لاحتاجت ربما لسنوات أطول.
الفيومي: الاستعانة بالصيغ
والعمليات الإسلامية في التعامل المصرفي لدى المصارف العامة لتطوير
منتجاتهم المصرفية التي تساهم في الاستثمار والإعمار وخاصة صيغ المشاركة
والاستصناع
بخصوص الآلية المقترحة والتي ترتبط بالمدة الزمنية أوجزها الخبير المصرفي بعدة خطوات وهي:
– تخفيف العبء على المصارف مؤقتاً لحين ترميم البنية التقنية واللوجستية
للمصارف العامة على وجه الخصوص وخاصة في إعادة دور محاسبين الجهات العامة
في دفع الرواتب، وإيجاد آلية للمتقاعدين لصرف مستحقاتهم.
– دعم الكوادر المصرفية الموجودة وإيجاد محفزات لهم، وإعادة تقييم أدائهم للتخفيف من حالة الفساد المنتشرة.
– الاستعانة بالصيغ والعمليات الإسلامية في التعامل المصرفي لدى المصارف
العامة لتطوير منتجاتهم المصرفية التي تساهم في الاستثمار والإعمار وخاصة
صيغ المشاركة والاستصناع.
– ولعل الأهم من كل ما سبق رفع العقوبات عن المصارف العامة ومصرف سوريا المركزي وإشراكهم بنظام السويفت.
– عدم الدخول حالياً في هذا الوضع الاقتصادي المتأزم بحلول تزيد من أعباء
المصارف في الوقت الحالي كاقتراح حذف الأصفار وغيرها من الاقتراحات التي
تحتاج بنية مصرفية قوية وليست متهلهلة كالواقع الحالي، ويمكن أن يكون هناك
دور مطمئن في طباعة فئات جديدة موثوقة مع طبعات جديدة للفئات التي هي قيد
التداول حالياً.
كل ما سبق يحتاج فترة زمنية طويلة ولكن من الممكن أن يكون دور رفع العقوبات مساهماً قوياً في تقليل هذه الفترة.