سيرياستيبس :
يظل هناك شبه إجماع بين من تحدثت اليهم كاتبة التحقيق في "فاينانشيال تايمز" بيليتا كلارك على أن الاضطراب المالي الناجم عن كوارث المناخ حتى وإن حدث بصورة بطيئة فإن تبعاته قد تكون أكثر سوءاً وضرراً من الأزمات المالية العالمية السابقة، ذلك ببساطة لأن الأزمة لن تكون ناجمة عن خلل في النظام يؤدي إلى أزمة يعقبها تعافٍ، بل ستكون نتيجة عامل طبيعي قوي بعيد وعميق التأثير.
عاد الحديث بقوة عن احتمالات تعرض الاقتصاد العالمي لأزمة مالية قد تكون أكبر من الأزمة السابقة التي تعرض لها قبل 17 عاماً.
"على رغم أن الحكومات والمؤسسات حول العالم اتخذت من الإجراءات والتدابير بعد الأزمة المالية عام 2008 جعلت النظام المالي العالمي أفضل نسبياً في مواجهة الأزمات فإن هناك كثيراً من العوامل التي تدفع نحو أزمة جديدة".
هذا ما خلص إليه تقرير مطول ومفصل لصحيفة "فاينانشيال تايمز"، مشيراً إلى عوامل جديدة تجعل المؤشرات إلى الأزمة المقبلة أكثر وضوحاً حالياً، من أهم تلك المؤشرات، غير الحرب التجارية العالمية التي أطلق شرارتها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرض التعريفة الجمركية على الشركاء والتوترات الجيوسياسية وتبعاتها الاقتصادية، التغيرات المناخية والأضرار الاقتصادية الهائلة لها، خصوصاً على قطاع التأمين.
يشار إلى أن الأزمة المالية العالمية السابقة بدأت شرارتها من القطاع العقاري في الولايات المتحدة الذي بدأ يشهد تراجعاً عام 2006 كان يمكن أن يكون هبوطاً دورياً محتملاً، إلا أن توسع القطاع المالي في إصدار الأوراق المالية التي تشبه سندات ضمان للقروض العقارية وبيعها للمستثمرين حول العالم زاد من حجم فقاعة الدين العقاري بصورة غير مستدامة، وحين انفجرت الفقاعة مع انهيار بنك "ليمان براذرز" العتيق ضربت الأزمة النظام المالي العالمي بالكامل.
ولا يستبعد تقرير الصحيفة أن يكون القطاع العقاري أيضاً في قلب الأزمة المالية العالمية المقبلة، لكن هذه المرة ليس بسبب المشتقات الاستثمارية المرتبطة بالديون العقارية، وإنما بسبب قطاع التأمين، خصوصاً التأمين على البيوت والعقارات.
إنذار أميركي مبكر
إضافة إلى أزمة الديون العالمية في ظل ارتفاع أسعار الفائدة منذ موجة التضخم التي اعقبت أزمة وباء كورونا وتباطؤ النمو الاقتصادي، هناك أكثر من إنذار مبكر من أكبر اقتصاد في العالم بالولايات المتحدة، ففي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أصدرت لجنة الموازنة في مجلس الشيوخ الأميركي تقريراً حول التغير المناخي وقطاع التأمين بعنوان "الانهيار التالي".
وخلص التقرير إلى أن "قيمة العقارات ستنخفض بالفعل، كما حدث عام 2008، مما سيجعل ثروات الأسر تنهار، وقد تكون الولايات المتحدة على طريق صدمة عميقة للاقتصاد تشبه الأزمة المالية لعام 2008، وربما أكبر".
وفي يناير (كانون الثاني) الماضي ذكر مجلس الاستقرار المالي أن التأمين أصبح أكثر كلفة وأقل توفراً في المناطق التي تتعرض للكوارث وأن "الصدمات المناخية" يمكن أن تؤدي إلى اضطراب أوسع في الأسواق.
يشار إلى أن مجلس الاستقرار المالي شكل عقب الأزمة المالية السابقة لمراقبة أوضاع النظام المالي العالمي والتعرف على أي إنذار مبكر في النظام.
وفي فبراير (شباط) الماضي من هذا العام أيضاً حذر رئيس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) جيروم باول من أن البنك المركزي يلاحظ أيضاً انسحاب البنوك وشركات التأمين من المناطق التي تتعرض للأخطار، قائلاً في شهادته أمام الكونغرس "إذا نظرنا إلى ما بعد 10 أو 15 سنة فستكون هناك مناطق في البلاد لا يمكن الحصول فيها على قرض عقاري، ولن تكون هناك فيها فروع للبنوك ولا ماكينات صراف آلي"، موضحاً "لا أعرف إن كانت هذه مشكلة استقرار مالي"، مستدركاً "لكن المؤكد أنه سيكون لها تبعات اقتصادية هائلة".
بعد شهادة باول أمام الكونغرس بنحو أسبوعين أبلغ المستثمر المخضرم وارن بافيت المساهمين في شركته العملاق "بيركشاير هاثاواي" أن كلفة التغطية التأمينية ارتفعت بشدة بسبب الزيادة الكبيرة في الأضرار الناجمة عن العواصف والأعاصير، محذراً من أن "التغير المناخي يبعث إنذاراته يوماً ما، وفي أي يوم قد تكون هناك خسارة مهولة للتأمين".
خسائر التأمين وتبعاتها
لا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة في صدمات المناخ التي تؤدي إلى خسائر قطاع التأمين وتبعاتها على بقية النظام المالي، فالاضطرابات التي تسببها الكوارث الطبيعية نتيجة التغيرات المناخية في تصاعد خارج أميركا أيضاً، ويتضح التأثير في شركات التأمين والبنوك وأسواق العقار من جنوب أستراليا إلى شمال إيطاليا.
وحين شهدت أوروبا أسوأ موجة حرارة في مارس 2025 حذر عضو مجلس إدارة أكبر شركة تأمين في العالم "أليانز" الألمانية غونتر تالينغر من أن درجات الحرارة على كوكب الأرض تقترب سريعاً من المستوى الذي لن تستطيع شركات التأمين العمل في ظله، مشيراً إلى أن ذلك سيؤدي إلى أخطار عميقة تهدد الأسس التي يقوم عليها القطاع المالي كله.
وكتب تالينغر على موقع "لينكد إن"، قائلاً "إذا غابت شركات التأمين فإن الخدمات المالية الأخرى تصبح غير متوافرة، وستختفي تماماً من دفاتر الحسابات القيمة الاقتصادية لمناطق بكاملها، مثل المناطق الساحلية والجافة وتلك المعرضة لخطر الحرائق، وسيكون رد الفعل على الأسواق سريعاً وبشعاً جداً".
هناك مشكلة أخرى، وهي أنه كي تحصل على قرض عقاري لشراء بيت تحتاج أولاً إلى التأمين على العقار، ومع ارتفاع اقساط التأمين بشدة في مناطق معرضة لتأثير التغيرات المناخية يصبح من الصعب على الأسر تحمل أقساط التأمين، بالتالي تزيد صعوبة الحصول على قرض عقاري، وكل ذلك يؤدي إلى انهيار الطلب في سوق العقار وانخفاض الأسعار الذي يعني بدوره تراجع ثروات الأسر في تلك المناطق.
احتمالات وتوقعات
إلا أن هناك من يقلل من تأثير الصدمات المناخية وتدهور قطاع التأمين في النظام المالي ككل، ويخفف من احتمالات أزمة مالية عالمية لأسباب مناخية تبدأ من قطاع التأمين، إذ يعتبر كريستوفر واللر، أحد محافظي " الفيدرالي" الذي عين في فترة رئاسة دونالد ترمب الأولى السابقة والمرشح حالياً ليحل محل جيروم باول، أن "تلك التأثيرات مبالغ فيها".
في 2023 قال واللر أمام مؤتمر حول التحديات المالية والاقتصادية في العاصمة الإسبانية مدريد إن "التغير المناخي أمر حقيقي"، مستدركاً "لكنني لا أعتقد أنه يشكل خطراً هائلاً على سلامة وجودة البنوك الكبرى أو الاستقرار المالي للولايات المتحدة".
ومن بين اختبارات السلامة والمرونة التي يجريها "الفيدرالي" أيضاً، خلص إحداها إلى أنه مع توقع انخفاض أسعار العقارات بنسبة 25 في المئة فان لدى البنوك الكبرى القدرة على "امتصاص" خسائر بنحو 100 مليار دولار من الديون المضمونة بالعقارات، إضافة إلى نحو 500 مليار دولار من الخسائر الأخرى المرتبطة بها.
أما من يرون أن الصدمات المناخية فيمكن أن يكون لها تأثير واسع في النظام المالي فيتحفظون في احتمالات وتوقعات أزمة عالمية عميقة، إذ يقول مفوض التأمين السابق في ولاية كاليفورنيا الأميركية ديف جونز، إنه "بمرور الوقت سنشهد إفلاس مزيد من شركات التأمين وارتفاع أقساط التأمين والمزيد من عدم توفر التأمين"، مضيفاً "أيضاً سنشهد مزيداً من التخلف عن سداد القروض العقارية وانخفاض قيمة الأصول وتجميد الائتمان (عدم توفر القروض)، وذلك بدلاً من أن نشهد كارثة هائلة تنهار فيها مجموعة من المؤسسات المالية الكبرى دفعة واحدة، وإن كان هناك خطر أن يحدث ذلك أيضاً".
يظل هناك شبه إجماع بين من تحدثت اليهم كاتبة التحقيق في "فاينانشيال تايمز" بيليتا كلارك على أن الاضطراب المالي الناجم عن كوارث المناخ حتى وإن حدث بصورة بطيئة فإن تبعاته قد تكون أكثر سوءاً وضرراً من الأزمات المالية العالمية السابقة، ذلك ببساطة لأن الأزمة لن تكون ناجمة عن خلل في النظام يؤدي إلى أزمة يعقبها تعافٍ، بل ستكون نتيجة عامل طبيعي قوي بعيد وعميق التأثير.
اندبندنت عربية