بمناسبة حذف الأصفار
الأهم هو الكارثة القادمة: تبييض الأموال المنهوبة!




سيرياستيبس : 

إذا كان الخطر المباشر الذي يهدد السوريين من عملية حذف الصفرين يتمثل في ظاهرة «التقريب السعري» وما سيحمله من تآكل إضافي في الأجور والمدخرات الصغيرة، فإن الخطر الأكبر والأعمق، يتمثل في الكارثة القادمة وجوهرها: تبييض الأموال المنهوبة. ففي جميع التجارب الدولية التي حققت نجاحاً نسبياً في عمليات استبدال العملة، لم يكن الهدف المحوري مجرد تسهيل المعاملات أو تقليص عدد الأصفار، بل إعادة توزيع الثروة ومعاقبة الفئات التي راكمت ثرواتها بطرق غير شرعية على حساب المجتمع.

ولعل أبرز ما يميز التجارب الناجحة في هذا المجال، بما في ذلك التجربة الشهيرة للاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، هو أن قرار استبدال العملة كان يتم بسرية تامة. والسرية لم تكن مجرد إجراء أمني، بل كانت ضمانة حقيقية لنجاح العملية، لأنها تمنع أصحاب الرساميل الكبيرة، وغالبيتهم ممن جمعوا ثرواتهم عبر الفساد والنهب، من التهرب أو الاستعداد المسبق. وقد اقتصر عدد الأشخاص الذين علموا مسبقاً بالقرار على عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ما سمح بتنفيذ العملية بشكل مفاجئ وحرمان الفاسدين من فرصة التصرف بأموالهم المنهوبة.

الشرط الثاني الذي ميز عمليات الاستبدال الناجحة هو وجود جدول تبديل للعملة يأخذ في الاعتبار مصدر الأموال وحجمها. فالأموال المودعة في الحسابات المصرفية، أي المصرح عنها رسمياً ومصادرها معروفة، كانت تُستبدل بنسبة (1 إلى 1)، أي أن أصحابها يحصلون على قيمتها كاملة بالعملة الجديدة. لكن الأموال النقدية (الكاش) المتداولة خارج النظام المصرفي كانت تخضع لجداول تنازلية: فمثلاً، يتم استبدال أول عشرة ملايين بنسبة (1 إلى 1)، أما مئة مليون فتستبدل بنسبة (10 إلى 1)، والمليار بنسبة (100 إلى 1). بهذه الآلية، حافظت الدول على القيمة الحقيقية لمدخرات المواطنين، وفي المقابل تراجعت القيمة الحقيقية لثروات النخب الفاسدة، وهو ما يمثل إعادة توزيع للثروة لصالح المجتمع.

في الحالة السورية، ما جرى هو العكس تماماً. فقد تم الإعلان عن نية حذف الصفرين قبل أشهر من موعد التنفيذ، عبر تصريحات رسمية وحملات إعلامية. وهذا الإعلان المبكر ليس مجرد «خطأ في التكتيك»، بل مؤشر صريح على أن الهدف من العملية لم يكن أبداً إعادة توزيع الثروة، بل العكس تماماً. فبهذا الشكل، تم منح الفاسدين أصحاب الثروات الكبرى، الذين يحتفظ بعضهم بمئات مليارات الليرات السورية المنهوبة، فرصة ذهبية للتصرف بأموالهم. وهؤلاء، سواء في الداخل أو في دول الجوار والإقليم التي تُستخدم فيها الليرة كأداة ضغط سياسي، سيسارعوان للتخلص من مخزونهم الضخم من العملة، ما سيؤدي إلى زيادة هائلة في عرض الليرة في السوق، وبالتالي تسريع فقدانها لقيمتها بمعدلات غير مسبوقة.

الأهم من ذلك، أن السماح للناهبين الكبار، القدامى والجدد، بتبديل أي كمية يملكونها من الليرة القديمة إلى الليرة الجديدة، يعني ببساطة أن الدولة تقوم بتنظيم عملية تبييض لأموال الفساد. وبالمنظور الطبقي، فإن العملية لا تستهدف سوى حماية مصالح النخب التي نهبت مقدرات البلاد خلال عقود، وتحويل أموالها من «ثروات مشبوهة» إلى ثروات نظيفة مقوننة بالعملة الجديدة. وهكذا، بدلاً من أن تكون عملية الاستبدال فرصة لمعاقبة الفاسدين ورد الاعتبار للمواطنين، تتحول إلى أكبر عملية تبييض أموال رسمية في التاريخ السوري.

إذا تأملنا في التجارب الفاشلة لعمليات استبدال العملة، نجد أنها جميعها اشتركت في غياب السرية، وهو ما سمح للأثرياء الفاسدين بتحويل الأزمة إلى فرصة لتعظيم ثرواتهم، حيث كانت النتيجة مزيداً من التضخم وتدهوراً إضافياً في قيمة العملة، لأن من كان يملك الأموال المنهوبة استطاع أن يستفيد من الإعلان المسبق، فيما خسر المواطن العادي كل ما يملك. واليوم، تبدو سورية متجهة إلى السيناريو نفسه: الإعلان المبكر، وغياب السرية، وعدم وجود جدول تبديل عادل، ما يفتح الباب واسعاً أمام الناهبين لتحويل أموالهم المنهوبة إلى عملة «جديدة» نظيفة.

النتيجة المباشرة لهذه العملية ستكون موجة تضخم أعنف من أي وقت مضى، حيث سيضخ أصحاب الرساميل الضخمة كميات هائلة من الليرات القديمة إلى السوق، ليتخلصوا منها قبل استبدالها. وهذا العرض الكبير سيقود إلى انهيار إضافي في قيمتها، يدفع ثمنه المواطن السوري عبر ارتفاع الأسعار الجنوني. والنتيجة الأبعد مدى هي أن عملية الاستبدال ستفقد معناها منذ اليوم الأول، لأن «الليرة الجديدة» ستولد مثقلة بالتضخم وفاقدة للثقة، تماماً كما ولدت «الليرة الحالية» بعد طبعاتها المتتالية بلا رصيد.

في النهاية، كما في كل السياسات الاقتصادية المتبعة سابقاً، سيكون الخاسر الأكبر هو المواطن السوري. فأصحاب الأجور المنخفضة ومدخرو «القرش الأبيض لليوم الأسود» لن يتمكنوا من حماية ما يملكونه من الانهيار، بينما الناهبون الكبار سيخرجون من هذه العملية أكثر قوة ونفوذاً، بعدما حصلوا على ختم «الشرعية» على ثرواتهم المنهوبة. وبذلك، يتحول مشروع حذف الصفرين من فرصة إصلاحية - كان يمكن لو طبق بشروط السرية والعدالة أن يحقق إعادة توزيع للثروة - إلى أداة جديدة لإعادة إنتاج الفساد وتوسيع الهوة الطبقية بين قلة متخمة بالمال، وأغلبية مسحوقة لا تملك سوى انتظار الكارثة القادمة.

من مقال في قاسيون



المصدر:
http://syriasteps.com/index.php?d=126&id=202798

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc