سيمياء العصر…كيف يمكن تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب؟ أضواء على التجربة الهندية ..الجريئة ؟
08/09/2025
سيرياستيبس
بقلم الكاتب والكلل المال عبد الحميد القتلان
بقيت البشرية قروناً من الزمن تبذل الغالي والنفيس وتخوض يائسة غمار العلم
والشعوذة لخلق ثروة من لا شيء، حتى اقتنع علماء العصر الحديث بأن تحويل
المعادن الرخيصة إلى ذهب أمراً إما مستحيل أو مكلف أكثر من عائده، لكن مع
تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ودخولها في المجال المالي من خلال
الدفع الإلكتروني والنقد الإلكتروني من جهة وتطور مفهوم العملة لتصبح سلعة
ترتبط قيمتها بالعرض والطلب أصبح هذا الحلم ممكناً فأضحت الكثير من الدول
تتقن لعبة " سيمياء " الأموال مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي تطبع عملتها
بدون تغطية من الذهب منذ نصف قرن حيث ان ورقة المئة دولار تكلف فقط قيمة
طباعة ورقة المئة دولار أي 12.5 سنتاً فقط!
لكن الجديد في هذا المجال هو
دخول دول جديدة إلى هذا النادي من خلال فهمها للعبة المال، حيث كان أخر هذه
التجارب وأكثرها جرأةً و حماسةً هي التجربة الهندية بقيادة رئيس وزرائها
الطموح والشجاع ناريندا مودي.
أضواء على التجربة الهندية:
في الثامن من تشرين الثاني لعام 2016 أعلنت الحكومة الهندية إلغاء ورقتين
نقديتين هما 500 روبية (قيمتها حوالي 7.4 دولار) والألف روبية (قيمتها 15
دولار)، حيث تشكل هاتين الورقتين حوالي 86% من المعروض المتداول النقدي،
وبالتالي تعيَّن على حاملي هذه الورقة تسليم هذه الأوراق إلى البنوك بحيث
يتم فتح حساب إلكتروني للمتعامل وإعطائه بطاقة دفع إلكتروني بالمبلغ، لقد
كان حجم الأوراق الموجودة في الأسواق كبيراً جداً و عدد المتعاملين هائلاً
مما سبب اختناقات كبيرة في قدرة المصارف على تقديم خدماتها، حيث اصطف
المواطنون في أرتال طويلة لتسليم أوراقهم النقدية، خاصة أن الفترة الزمنية
المتاحة لتسليم هذه الأوراق النقدية هي حتى نهاية كانون الأول من العام
نفسه.
مزايا إلغاء التوريق Demonetization:
لقد كانت هذه العملية حلاً سحرياً للكثير من المشاكل المستعصية التي تعيق
التنمية، مثل اقتصاد الظل، فلم يعد يستطيع التجار والمتنفذين المضاربة في
الأموال في أسواق العملات السوداء، وأصبحت عمليات تمويل الفساد أكثر صعوبة،
وانخفضت معدلات التهريب والاتجار بالبشر، وانخفض عمليات التهرب الضريبي
بشكل كبير جداً، كما ارتفعت قدرة البنوك على الإقراض نتيجة استحواذها على
الأموال التي كانت خارج الدائرة المالية للبنوك، والأهم من ذلك ازدادت
عائدات الحكومة مباشرة حيث أصبح يتعين على كل مودع إيضاح مصدر الأموال وفي
حال عدم قدرته على ذلك يغرَّم بدفع ضعف قيمة أعلى نسبة ضريبة على الأموال،
كما أصبح لدى الحكومة الهندية إمكانية ضخ أموالاَ جديدة عبر مشاريع
استثمارية دون أن يؤدي ذلك إلى التضخم نتيجة انخفاض قيمة المعروض النقدي
وبالتالي ازدياد معدل النمو وانخفاض البطالة.
مساوئ إلغاء التوريق Demonetization:
لم تكن هذه الخطوة بدون ألم، فقد سبب الانخفاض المفاجئ للمعروض النقدي (
ولو مرحلياَ نتيجة حجم التغيير الكبير والحاد و صعوبة قدرة العمليات
الاقتصادية على التكيف) في انكماش الاقتصاد جزئياَ حيث انخفض معدل نمو GDP
بمقدار نصف بالمئة إلى ما دون 7% وانخفض استهلاك السلع المنزلية نتيجة عدم
توفر السيولة، حيث ان الحكومة الهندية قامت بتقييد كمية الانفاق من الأموال
المودعة على أساس يومي وأسبوعي، إضافة إلى ذلك أدت هذه الخطوة إلى انخفاض
قيمة الروبية مقابل الدولار وارتفاع واردات الذهب حيث لجأ المتعاملون إلى
شراء الذهب والدولار الذين ارتفعت اسعارهما في الأسواق نتيجة زيادة الطلب
عليها.
*كيف يمكن إلغاء التوريق؟
لا بد من الإشارة إلى ان هذه الخطوة التي قامت بها الهند، ما كانت لتنجح
لولا جهود طويلة ومضنية لعدة سنوات في تنمية القطاع البنكي والخدمات
البنكية وتطوير البنية التحتية لقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
وتطوير قوانين وتشريعات الدفع الإلكتروني والتجارة الإلكترونية ودعم
العمليات المالية الإلكترونية في مختلف القطاعات الصناعية والزراعية
والخدمية وتجارة التجزئة.
لقد أضحى توظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التنمية دعامة رئيسية
وحاملاً رئيسية لتحقيق خطط التنمية ومراقبة نشاطها وتقلباتها.
إن تطوير النشاط المجتمع الاقتصادي ليستغني عن الأموال الفيزيائية Cashless
society لم يعد ضرباَ من الترف الخدمي والاقتصادي وإنما أصبح ضرورة ملحة
لحل مشكلات المجتمع مثل مكافحة الفساد والمضاربة والتهرب الضريبي وتوفير
العائدات للتنمية وإمكانية مراقبة النشاط الاقتصادي بشكل آني مما يتيح
إمكانية الدعم والرعاية الاقتصادية في الوقت المناسب، وليس انتظار المشاكل
ورمي المسؤوليات على حكومات سابقة أو ظروف خارجية يستعصي على المواطن فهمها
او إدراكها.
وفي النهاية لا بد من الإشارة إلى أن أي تغيير إيجابي لا بد أن يصاحبه
تحديات وشكوك ومعارضين، حيث أن هذه الخطوة في الهند قد تعرضت للكثير من
الانتقاد والجدل، وفي حال أن كل المسؤول يستمع إلى معارضيه أو يخشي أن يخطأ
لما استطاع أحد أن يخطو خطوة إلى الأمام…
المصدر:
http://syriasteps.com/index.php?d=126&id=202860