سيرياستيبس :
تظهر هذه المؤشرات أن السياسات المعتمدة للأجور خلال العقدين الماضيين لم تحافظ على القوة الشرائية للعمال وحسب، بل أدت إلى تآكل مستمر في مستوى المعيشة وتوسيع هوة عدم المساواة وتعميق أزمة سوق العمل. وحتى في حال إقرار زيادة في الأجور للعام المقبل تتناسب مع التضخم، يرى كثير من العمال أن ذلك لن يعوض التراجع التراكمي في قدرتهم الشرائية، وهو تراجع متجذر في أعوام طويلة من السياسات الخاطئة وتجاهل الحقائق الاقتصادية التي تحكم حياة العمال.
مع اقتراب موعد بحث الحد الأدنى للأجور لعام 2026، تصاعد الجدل حول الفجوة العميقة بين أجور العمال وكلفة المعيشة الحقيقية ليصبح أحد أبرز مواضيع الرأي العام الإيراني، وقضية يرى ناشطون عماليون وخبراء اقتصاد العمل أن مسارها هذا العام يثير قلقاً متزايداً ويكشف مرة أخرى عن اتساع الهوة بين القوانين الرسمية وواقع الحياة اليومية للعمال.
يؤكد خبير شؤون العمل حميد حاج إسماعيلي في تقييمه للوضع الراهن أن رفع الحد الأدنى للأجور يجب أن يتم وفق المادة 41 من قانون العمل، وبالاستناد إلى مؤشري التضخم الرسمي وسلة معيشة الأسرة.
ويقول إن التضخم المرتفع وقفزات أسعار السلع الأساسية ضاعفا الضغط المعيشي إلى درجة تجعل اتخاذ قرار في شأن الحد الأدنى للأجور للعام المقبل مسألة بالغة الأهمية. ويرى أن أي قرار لا يأخذ في الحسبان معدلات التضخم وكلف المعيشة سيعمق الفجوة القائمة بين دخل العمال ونفقات أسرهم.
وفي وقت يقدر متوسط التضخم في إيران بنحو 45 في المئة، تشير التقارير إلى أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية بلغ نحو 64 في المئة، مما دفع بعض الاقتصاديين إلى التحذير من أن خط الفقر تجاوز الآن 55 مليون تومان (500 دولار) مع احتمال زيادته قبل نهاية العام. وتظهر هذه الأرقام أن مسألة الأجور ليست شأناً نقابياً وحسب، بل أحد المحاور الأساسية للأزمة المعيشية في إيران.
اتساع فجوة الثقة بمنظومة الأجور
في مثل هذه الظروف، لم تتمكن السياسات الداعمة التي تعتمدها الحكومة، بما فيها توزيع قسائم السلع، من تخفيف العبء الناجم عن موجة ارتفاع الأسعار. ويقول ناشطون عماليون إن أسعار السلع المشمولة بالبطاقات التموينية ترتفع بالتزامن مع صرف الدعم، مما يعني تراجع القوة الشرائية للأسر من دورة إلى أخرى، لتتحول القسائم فعلياً إلى أداة غير فاعلة. وزادت التجارب الأخيرة، ولا سيما ارتفاع أسعار سلع أساسية مثل الزيت والرز واللحوم والدواجن قبيل كل مرحلة من مراحل توزيع الدعم، من حدة هذه المخاوف.
وفي هذا السياق، تكشف التحذيرات التي يطلقها الخبير الاقتصادي حسين راغفر عن أبعاد جديدة من أزمة المعيشة، إذ يؤكد أن أكثر من 45 مليون إيراني يعيشون تحت خط الفقر، فيما يقاسي نحو 7 ملايين شخص الجوع الكامل، أي إنهم عاجزون عن تأمين الحد الأدنى من السعرات الحرارية اللازمة، حتى لو أنفقوا كامل دخلهم على الغذاء، وهذه الأرقام ترسم صورة أكثر وضوحاً لعمق الأزمة الاجتماعية وتأثير السياسات غير الفاعلة للأجور في حياة الطبقة العاملة وجودة معيشتها.
وتزايد كلف الحياة اليومية، فضلاً عن عدم توافق الأجور مع المستوى الحقيقي للأسعار، دفعا شريحة من القوى العاملة، بخاصة في القطاعات الإنتاجية، إلى فقدان الحافز للمشاركة في سوق العمل الرسمية. ويؤكد ناشطون عماليون أن غياب التناسب بين الأجور وكلفة المعيشة، إضافة إلى أوضاع العمال ذوي العقود الموقتة وتهرب بعض أصحاب العمل من دفع التأمينات، تدفع العمال إلى التوجه نحو أعمال غير رسمية أو وظائف جزئية بهدف تحسين دخلهم.
ويؤيد مفتش المجمع الأعلى لممثلي العمال في إيران حميد رضا إمام قلي تبار هذا التقييم، موضحاً أن بعض أصحاب المهن الموقتة أو الترفيهية يحققون دخلاً يفوق ما يحصل عليه العمال الرسميون، مما يجعل الإقبال على العمل في الوحدات الإنتاجية محدوداً. ويشير أيضاً إلى أن دخل بيع المأكولات الخفيفة في بعض المناطق السياحية يفوق أحياناً الأجر المقرر من المجلس الأعلى للعمل، في مثال يبرز مدى ضعف فاعلية الأجر الرسمي أمام كلف المعيشة. وبرأيه، فإن الهاجس الأكبر لدى مجتمع العمال الذي يمس 64 في المئة من سكان البلاد هو مستوى المعيشة والأمن الوظيفي.
والمفارقة أن ممثلي أصحاب العمل يكررون سنوياً اعتراضاتهم بدعوى أن زيادة الأجور تفضي إلى ارتفاع عام في الأسعار وزيادة كلفة الإنتاج، بالتالي يرفضون أية زيادة فاعلة في الأجور، لكن البيانات الرسمية تنقض هذا الادعاء، فبحسب أرقام مركز الإحصاء لا تتجاوز حصة الأجور في كلفة الإنتاج الصناعي خمسة في المئة، مما يعني أن حتى الزيادات الكبيرة في الأجور لا تؤثر إلا بصورة طفيفة في السعر النهائي للسلع.
وتظهر تقارير وزارة الصناعة والتعدين والتجارة أن حصة الأجور من كلفة السلع والخدمات ضمن 45 قطاعاً اقتصادياً تبلغ في الحد الأعلى 12 في المئة، تراوح ما بين 1.9 في المئة في الأنشطة الهندسية و47.7 في المئة في قطاع الفنادق والمطاعم. ومع ذلك، فإن الزيادات المنطقية في الأجور لا تعد بالضرورة مولدة للتضخم حتى في هذه القطاعات.
وتكشف هذه المعطيات عن أن مقاومة رفع الأجور لا تستند في جوهرها إلى منطق اقتصادي، بقدر ما ترتبط برؤية غير واقعية لبنية كلفة الإنتاج.
سوق عمل خاملة وتداعيات نقص اليد العاملة
إضافة إلى أزمة المعيشة، يبرز نقص القوى العاملة في الصناعات كأحد أبرز نتائج سياسات الأجور غير الفاعلة، وتفاقمت هذه المشكلة خصوصاً بعد خروج أعداد كبيرة من العمالة الأفغانية خلال العام الماضي، مما أحدث فجوات ملموسة في قطاعات إنتاجية مختلفة. وعلى رغم حاجة السوق، فإن كثيراً من طالبي العمل يعزفون عن الالتحاق بالوحدات الصناعية بسبب تدني الأجور وضعف الحوافز، ويفضلون التوجه نحو أعمال غير رسمية.
وأكد المدير العام لمنظمة الصناعات الصغيرة والمدن الصناعية في إيران رضا أنصاري خلال تصريحات أدلى بها في مايو (أيار) الماضي وجود نقص واضح في العمالة الصناعية، مشيراً إلى أن إحدى أبرز نقاط الضعف في المدن الصناعية هي البعد الكبير عن المراكز الحضرية، مما يرفع كلفة تنقل العمال ويقلل جاذبية العمل في هذه المنشآت، ولفت إلى عدم توافق الأجور مع الظروف الاقتصادية، بوصفه عاملاً إضافياً في تراجع إقبال العمال، مما يعكس أن القطاع الصناعي نفسه بدأ يشعر بآثار السياسات غير الملائمة للأجور على توافر اليد العاملة.
نمو البطالة
ويظهر آخر تقرير صادر عن مركز الإحصاء الإيراني حول أوضاع التوظيف خلال صيف 2025 أن سوق العمل تسلك اتجاهاً يبعث على القلق، إذ إن معدل البطالة بين الأفراد في سن الـ15 وما فوق ارتفع إلى 7.4 في المئة، بينما لم تتجاوز نسبة المشاركة الاقتصادية 48.4 في المئة. وفضلاً عن انخفاض عدد العاملين نحو 171 ألف شخص مقارنة بالعام الماضي، يتضح أن شريحة واسعة من القوى العاملة انسحبت من سوق العمل الرسمية.
وتبدو أوضاع الشباب أكثر هشاشة، فوفقاً للأرقام الرسمية بلغ معدل البطالة للفئة العمرية ما بين 15 و24 سنة نحو 19 في المئة، مما تشير إليه رئيسة مجموعة دراسات سوق العمل في مركز أبحاث البرلمان فاطمة عزيز خاني بوصفه دليلاً على تزايد عزوف الشباب عن الالتحاق بسوق العمل. وترى أن غياب الشفافية وعدم اليقين الاقتصادي وقلة الفرص المتلائمة مع المهارات، دفعت الشباب تدريجاً إلى الخروج من دائرة النشاط الاقتصادي.
وفي موازاة ذلك، يواصل العمل غير الرسمي والمهن الهامشية التوسع بوتيرة متسارعة، فارتفع عدد الباعة الجائلين في شوارع طهران ومشهد وأصفهان بصورة لافتة، وتشير بيانات شركة تنظيم المهن في طهران إلى وجود نحو 20 ألف بائع جوال في العاصمة وحدها، بينهم 3 آلاف يعملون داخل شبكة المترو، ويؤكد خبراء أن الأعداد الحقيقية تتجاوز ما تعلنه الإحصاءات الرسمية بدرجة كبيرة.
وإضافة إلى هذه الظاهرة، تتنامى أيضاً الأعمال المنزلية والأنشطة عبر الإنترنت والعمل عبر تطبيقات النقل والمهن المرتبطة بخدمات التوصيل، في مسار يعكس أن تراجع الدافع للعمل الرسمي يفتح الباب واسعاً أمام اتساع رقعة سوق العمل غير الرسمية. ونتيجة لذلك يزداد عدد العاطلين طوعاً بين العمال، وهم أولئك الذين يمتلكون القدرة على العمل لكنهم يجدون الأجور الرسمية المتدنية غير مجدية.
وفي المحصلة، تظهر هذه المؤشرات أن السياسات المعتمدة للأجور خلال العقدين الماضيين لم تحافظ على القوة الشرائية للعمال وحسب، بل أدت إلى تآكل مستمر في مستوى المعيشة وتوسيع هوة عدم المساواة وتعميق أزمة سوق العمل. وحتى في حال إقرار زيادة في الأجور للعام المقبل تتناسب مع التضخم، يرى كثير من العمال أن ذلك لن يعوض التراجع التراكمي في قدرتهم الشرائية، وهو تراجع متجذر في أعوام طويلة من السياسات الخاطئة وتجاهل الحقائق الاقتصادية التي تحكم حياة العمال.
نقلاً عن "اندبندنت فارسية"