سيرياستيبس :
في المكتب البيضاوي بدا ولي العهد السعودي حريصاً على استثمار اللحظة التاريخية لترسيخ علاقة إستراتيجية مع الولايات المتحدة تلائم نصف القرن المقبل، مدركاً أن الارتقاء بهذه العلاقة يتطلب علاقات طيبة مع الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء.
اعتادت الولايات المتحدة استقبال ضيوفها من الزعماء بترتيبات بسيطة في البيت الأبيض، لكن مشهد استقبال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أمس الثلاثاء، 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، كان مختلفاً بكل المقاييس، فالحفاوة كانت واضحة في مراسم الاستقبال، بدءاً من موكب الخيول ووصولاً إلى تحليق المقاتلات والطلقات الترحيبية بالمدفعية. يقول الباحث الأميركي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط باول سوليفان،"لا أتذكر استقبالاً لزعيم أجنبي بهذا القدر من الفخامة في التاريخ المعاصر".
علاقة إستراتيجية مع الحزبين
في المكتب البيضاوي بدا ولي العهد السعودي حريصاً على استثمار اللحظة التاريخية لترسيخ علاقة إستراتيجية مع الولايات المتحدة تلائم نصف القرن المقبل، مدركاً أن الارتقاء بهذه العلاقة يتطلب علاقات طيبة مع الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء. بينما سعى ترمب إلى مهاجمة الحزب الديمقراطي، تعامل ولي العهد السعودي مع الموقف بدبلوماسية ولم يدلِ بأية انتقادات تجاه القيادات الديمقراطية، في نهج يعبر عن البعد الإستراتيجي الذي يوليه للعلاقة مع واشنطن. في المقابل، ذكر الرئيس ترمب اسم جو بايدن ثماني مرات وباراك أوباما مرتين للإسقاط على سياساتهما، وقال إن "تعامل أوباما مع السعودية كان سيئاً، أما بايدن فلم يكن يعرف ماذا يفعل".
وفي حين بدا الطابع الشخصي طاغياً على سلوك ترمب بحكم علاقته القوية بولي العهد السعودي، فقد حرص الأمير محمد بن سلمان خلال أكثر من مرة على تأكيد النهج المؤسساتي الذي تسير عليه العلاقات بين الرياض وواشنطن، وفي رده على أسئلة الصحافيين حول استثمار التريليون دولار قال بوضوح، "نحن لا نختلق فرص زائفة لإرضاء أميركا أو ترمب، إنها فرص حقيقية وأحد الأمثلة الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات".
وفي اليوم الثاني من زيارته توجه الأمير محمد بن سلمان إلى الكونغرس حيث كان في استقباله رئيس مجلس النواب مايك جونسون بحضور عدد من النواب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ويقول الباحث السعودي علي الشهابي إن "زيارة الكابيتول تمثل إشارة إلى أن السعودية ترغب في الحفاظ على علاقات متينة مع الحزبين، ويظهر ذلك أيضاً من خلال العلاقات الممتازة مع إدارة بايدن خلال الـ 18 شهراً الماضية".
ولدى سؤال ترمب للأمير محمد بن سلمان عن الرؤساء الأميركيين الأقرب للسعودية على مر التاريخ، ذكر ولي العهد السعودي الرئيس فرانكلين روزفلت الذي بدأت العلاقات مع السعودية في عهده مذكراً بأنه ديمقراطي، ثم قال إن العلاقات الثنائية شهدت تقدماً ملاحظاً في عهد الرئيس الجمهوري رونالد ريغان، ومن الواضح أن ولي العهد السعودي يرى مصلحة إستراتيجية في تأمين علاقات جيدة مع الحزبين لا حزب واحد.
ولم تمنع الخلافات الأيديولوجية بين السعودية والحزب الديمقراطي استمرار التعاون بينهما، فجيمي كارتر هو من باع مقاتلات F-15 الأكثر تقدماً في ذلك الوقت للسعودية متجاهلاً معارضة إسرائيل، وعلى رغم التحفظات السعودية على سياسة أوباما تجاه إيران والربيع العربي لكن الرياض في عهده استطاعت الحصول على أكبر صفقة تسليح من أميركا في ذلك الوقت، وبعدما تردّت العلاقات خلال أعوام بايدن الأولى اقترب البلدان في عامه الأخير من التوصل إلى اتفاقات مهمة على الصعيد الدفاعي والاقتصادي والنووي.
اتفاقات بعد مفاوضات صعبة
قادت الاستعدادات الأميركية لمراسم الاستقبال الاستثنائية لولي العهد السعودي إلى ترجيحات بإعلانات كبرى، لكن الزيارة فاقت بالفعل كل التوقعات، إذ يقول الأكاديمي المتخصص في الطاقة في "جامعة جونز هوبكنز" باول سوليفان في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن "التوصل إلى اتفاق للتعاون في مجال الطاقة النووية المدنية أمر لم أكن أتوقعه قبل بضعة أعوام فقط، وسأحتاج الآن إلى تعديل بعض محاضراتي حول الطاقة النووية نتيجة لذلك".
ووقّع البلدان أيضاً اتفاق الدفاع الإستراتيجي الأميركي - السعودي الذي من شأنه تعزيز التعاون العسكري بين البلدين وتقوية الردع في الشرق الأوسط، وتسهيل عمل الشركات الدفاعية الأميركية في السعودية، لكن التطور الأبرز كان الموافقة على صفقة لبيع مقاتلات "F-35" لما لها من تأثيرات جيوسياسية وتحديداً في إسرائيل التي تريد الحفاظ على تفوقها العسكري النوعي في المنطقة، فبالتزامن مع الزيارة صعّد اللوبي الإسرائيلي في واشنطن جهوده للضغط ومنع هذه الخطوة لكن من دون جدوى، وخلال اجتماع المكتب البيضاوي تلقى ترمب أسئلة عدة حول المخاوف الإسرائيلية من بيع هذه المقاتلات للسعودية، لكن ترمب رد قائلاً إنه سيمنح الرياض مقاتلات "F-35" بالمواصفات نفسها التي تملكها إسرائيل، مضيفاً أن السعودية حليف عظيم وفي مستوى يؤهلها للحصول على أفضل المعدات المتاحة.

وكانت إدارة بايدن تربط ترقية الشراكة السعودية - الأميركية بالتطبيع مع إسرائيل، لكن في عهد ترمب استطاعت الرياض الحصول على ما تريد من دون ذلك الشرط، مستفيدة من ميل ترمب الملاحظ خلال ولايته الثانية لتجاوز إسرائيل وإعطاء الأولوية لدول الخليج، لكن تحقق هذه المطالب جاء بعد ماراثون طويل من المفاوضات التي يصف صعوبتها الباحث الأميركي فراس مقصد بقوله إن "كلاً من الرئيس ترمب والأمير محمد بن سلمان يعتزان بمهاراتهما التفاوضية ويريدان الأفضل لبلديهما"، مضيفاً، "عندما كنت في الرياض لم يستبعد السعوديون إمكان تأجيل الزيارة إذا لم يحصلوا على مطالبهم".
وكثيراً ما عانت السعودية من تأخر تسليم الأسلحة الأميركية وتقلبات الإدارات الأميركية المتعاقبة، لكن ترمب خلال حفل العشاء الرسمي أمس أعلن تصنيف السعودية حليفاً رئيساً خارج الـ "ناتو"، في خطوة قال إنها ستفاجئ حتى المسؤولين السعوديين، ويعد هذا التصنيف أعلى درجة تعاون عسكري وأمني تمنحها الولايات المتحدة لدولة لا تنتمي للـ"ناتو"، ولم تحصل عليه إلا 19 دولة أخرى، ومن شأنه منح السعودية أولوية الحصول على الأسلحة الأميركية المتقدمة والتكنولوجيا العسكرية المتطورة، وإمكان شراء أو استئجار معدات عسكرية أميركية فائضة بأسعار مخفضة أو شروط ميسرة، ويذكر أن السعودية تتمتع فعلياً بمعظم هذه الامتيازات منذ عقود بسبب الشراكة الطويلة مع الولايات المتحدة، لكن التصنيف الرسمي يجعل هذه الامتيازات مكفولة قانونياً ولا تخضع لتقلبات الإدارات الأميركية.
ويعتبر سوليفان زيارة الأمير محمد بن سلمان لواشنطن بأنها "بداية عصر جديد في العلاقات الأميركية - السعودية العريقة والمصيرية، وهي من أهم التطورات منذ تدشينها، وربما تكون بمثابة علامة فارقة جديدة تُضاف إلى اللقاء التاريخي بين الملك عبدالعزيز والرئيس فرانكلين روزفلت قبل ثمانية عقود على متن الباخرة كوينسي".
ووفق الباحث الأميركي فإن الخطوات الأخيرة تمثل تقدماً إيجابياً ومهماً للطرفين خصوصاً على مسار العلاقة بين القطاع الخاص، مما يرسخ التقدم في المجال الحكومي من خلال الاستثمارات والأفكار المشتركة، مضيفاً أن "الوقت حان للاعتراف الكامل بأن السعودية أكبر بكثير من مجرد نفط في الصحراء".
اندبندنت عربية


