سيرياستيبس :
في أي اقتصادٍ متعافٍ، لا يبدأ النبض من المصانع ولا من الأسواق، بل من المصارف. فحين تستعيد البنوك قدرتها على التمويل وإدارة السيولة، تبدأ عجلة الإنتاج بالدوران، وتتحول المدخرات إلى استثمار، والوعود إلى أرقام ملموسة. في سوريا، السؤال الجوهري إلى الواجهة: هل يستطيع الجهاز المصرفي استعادة دوره كقلب نابض للاقتصاد بعد سنوات من الشلل وفقدان الثقة؟
أكد الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي أن المصارف تقوم بدور محوري في أي اقتصاد، فهي الجهة التي تجمع المدخرات وتحوّلها إلى استثمارات، وتوفر التمويل اللازم للإنتاج والتجارة، وتدير عمليات الدفع. مضيفا: وفي سوريا، التي تمر بمرحلة اقتصادية حساسة، تبرز أهمية الجهاز المصرفي كأحد الركائز الأساسية لمرحلة التعافي وإعادة الإعمار. إلا أن هذا الدور تراجع بشكل كبير خلال السنوات الماضية نتيجة نقص السيولة وتوقف جزء كبير من الأنشطة المصرفية، إضافة إلى أزمة الأموال العالقة في المصارف اللبنانية التي عمّقت الاختناق المالي.
توقف الأنشطة المصرفية وأزمة السيولة
لفت أستاذ الاقتصاد إلى أن المصارف السورية شهدت تراجعاً حاداً في قدرتها على تلبية احتياجات السوق من السيولة، نتيجة فقدان الثقة وتوجه المواطنين إلى سحب مدخراتهم والاحتفاظ بها خارج النظام المصرفي.
وأشار إلى أن هذا التراجع أدى إلى شلل شبه كامل في عمليات الإقراض، وتقلص دور المصارف إلى مجرد حفظ الأموال بدلاً من تمويل النشاط الاقتصادي. كما أن القيود المفروضة على السحوبات اليومية والشهرية زادت من انكماش الحركة التجارية والإنتاجية.
أزمة الودائع في المصارف اللبنانية
ذكر قوشجي بأن أزمة الأموال السورية المحتجزة في لبنان تُعدّ أحد أبرز العوامل التي عمّقت الأزمة المالية في سوريا. فقد كانت شريحة واسعة من الشركات والأفراد تعتمد على المصارف اللبنانية لإدارة أعمالها وتمويل تجارتها الخارجية. ومع تجميد هذه الودائع منذ عام 2019، فقد الاقتصاد السوري مصدراً مهماً للعملات الأجنبية، ما أدى إلى تراجع القدرة على الاستيراد، وزيادة الضغط على سعر الصرف، وتفاقم أزمة السيولة داخل المصارف المحلية.
مسارات ضرورية
ويرى استاذ الاقتصاد أن إعادة تنشيط القطاع المصرفي بعد رفع العقوبات الاقتصادية، تتطلب خطة شاملة تشمل التحويلات والسحوبات والقروض والرقابة والفوائد والبنوك الخاصة ونظام الدفع الإلكتروني. فالتحويلات المالية تحتاج إلى قنوات رسمية أكثر مرونة، مع تقليص الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق.
وشدد على أهمية أن تعود السحوبات والإيداعات تدريجياً إلى مستويات طبيعية تعيد الثقة للمودعين. كما أن إعادة إطلاق القروض الإنتاجية تمثل خطوة أساسية لتحريك عجلة الاقتصاد، خصوصاً في القطاعات الزراعية والصناعية والتجارية.
ولفت قوشجي إلى أن الرقابة المصرفية بدورها تحتاج إلى تحديث وتطوير يضمن الشفافية والحوكمة، بينما يتطلب نظام الفوائد إعادة هيكلة تتناسب مع معدلات التضخم وتدعم الادخار والاستثمار.
ويرى أن البنوك الخاصة، يمكن أن تقوم بدور أكبر في تمويل المشاريع إذا توفرت بيئة تشريعية وتنظيمية مناسبة. ويأتي نظام الدفع الإلكتروني كأحد أهم أدوات التحديث، إذ يسهم في تقليل الاعتماد على النقد الورقي وتخفيف الضغط على السيولة وتحسين كفاءة التعاملات المالية.
كيف يلمس المواطن التحسن؟
قوشجي يرى أن المواطن يبدأ بالشعور بالتحسن عندما تصبح عمليات السحب والإيداع أكثر سهولة، وعندما تتوفر السيولة في المصارف من دون ازدحام أو عمولات مجحفة. كما ينعكس التحسن في انخفاض تكاليف التحويلات الداخلية والخارجية، وفي عودة القروض السكنية والاستهلاكية والإنتاجية بشروط واضحة ومقبولة ونسب فائدة متدنية بين 5 – 7 بالمئة بدلاً من 20-23 بالمئة. ويظهر التحسن أيضاً في انتشار وسائل الدفع الإلكتروني التي تختصر الوقت والجهد وتقلل الحاجة لحمل مبالغ نقدية كبيرة.
وذلك بالتزامن مع استقرار سعر الصرف وتراجع الفجوة بين الأسعار الرسمية والموازية ومع إمكانية تبديل العملات بالمصارف التجارية وشركات الصرافة بالسعر الرسمي نفسه، يصبح المواطن قادراً على التخطيط المالي بثقة أكبر. كما أن تحسين جودة الخدمات المصرفية، سواء عبر التطبيقات الإلكترونية أم عبر مراكز الخدمة، يعزز شعور الناس بأن الجهاز المصرفي عاد ليكون جزءاً فاعلاً من حياتهم اليومية.
وختم أستاذ الاقتصاد بالقول: إن تعافي الاقتصاد السوري مرتبط بشكل وثيق بقدرة المصارف على استعادة دورها الطبيعي في التمويل والإدارة المالية. فالمصارف ليست قطاعاً منفصلاً، بل هي القلب الذي يضخ السيولة في شرايين الاقتصاد. وإصلاح هذا القطاع يتطلب خطوات متدرجة تشمل التشريعات، وإدارة السيولة، واستعادة الثقة، وحل أزمة الودائع في لبنان، وتطوير البنية التكنولوجية. وعندما تبدأ هذه الخطوات بالتحقق، سيشعر المواطن بأن التعافي أصبح واقعاً ملموساً وليس مجرد وعود أو خطط على الورق.
محمد راكان مصطفى
