الياس نجمة ينصح بالزراعة أولاً
10/11/2008



بقلم الدكتور الياس نجمة

عندما كنا على مقاعد الدراسة الجامعية في ستينات القرن الماضي - و هي السنوات التي أسمتها الأمم المتحدة بعشرية التنمية و تفجرت فيها الأغلبية الساحقة من نظريات النمو و التنمية - كانوا يقولون "أي خبراء الاقتصاد " من أهل اليمين و أهل اليسار أن البلدان النامية هي بلدان زراعية و أن البلدان المتطورة هي بلدان صناعية، و كان دليلهم إلى ذلك أن أكثر العاملين في البلدان النامية يعملون في الزراعة في حين أن العكس هو ما يقوم في الدول المتطورة، و يضيفون على ذلك أن القيمة المضافة في الإنتاج الصناعي اكبر مما هي في الإنتاج الزراعي و يختمون حججهم بالمقولة التي لم تكن تقبل الجدل آنذاك و المستمدة من نظرية الريع لدى ريكاردو و هي أن الصناعة تستفيد من قانون المردود المتزايد في حين أن الزراعة تخضع لقانون المردود المتناقص، و هذا يعني أن زيادة احد عناصر الإنتاج أو كليهما من عمل أو رأس مال في وحدة الإنتاج يؤدي إلى تزايد بنسبة اكبر في الإنتاج الصناعي في حين يكون المردود بنسبة اقل في الإنتاج الزراعي للحالة ذاتها ..

كما قامت أفكار تقول أن التصنيع يأتي بالعلم و المعرفة و يدخل إلى العالم النامي التكنولوجيا و التقنيات مما دفع بعض الاقتصاديين إلى القول أن مستقبل الأمة في مصانعها و أن الصناعة هي التي ستحدد مراكز القوى الاقتصادية في العالم.

 و هكذا ارتبط التصنيع في بلدان العالم الثالث جميعها و من بينهم سوريا بطموحات الشعوب و مطالب النقابات و الأحزاب و سعت الحكومات لتحقيق ذلك بوتائر عالية و مهما كان الثمن و على حساب أشياء كثيرة أخرى أهمها حاجات القطاعات الأخرى و حاجات الجماهير من المواد الاستهلاكية المختلفة متذرعة بمعدلات الإنتاجية المرتفعة في قطاع الصناعة قياسا على غيره من القطاعات الاقتصادية آنذاك، و داعمة توجهاتها برغبتها بتنويع المنتجات و إنتاج بدائل عن المستوردات و حل مشكلة البطالة و إدخال التكنولوجيا و أساليب العمل المتقدمة و خصوصا أن الصناعة كنشاط اقتصادي بمعطياتها الحديثة ومنذ الثورة الصناعية كانت حكرا على الدول الاستعمارية الغربية في حين كانت الزراعة و الأنشطة التقليدية سائدة في العالم الثالث، و كان التبادل يقوم بين هذين العالمين في تبادل المنتجات المصنعة في العالم الصناعي مقابل المنتجات و المواد الأولية التي يصدرها العالم الثالث إليه و بالتالي كان تغيير هذه العلاقة مسألة أساسية تتصل بالاستقلال الوطني و بالكبرياء الشعبي و الخروج من التبعية الاقتصادية.

 و النتيجة المنطقية لهذا التحليل أن على الدول النامية بسبب محدودية الموارد تركيز جهودها على قطاع الصناعة و تخصيص معظم الموارد المالية المتاحة له و جعله قطب التنمية لديها في اطار سياسة نمو غير متوازنة على أمل أن ينثر رياح التغيير و التقدم على القطاعات الأخرى بعد اكتمال نموه و نجاحه و ذلك كما صنع الاتحاد السوفيتي سابقا الذي كان المثل الأعلى لعدد كبير من الدول في سياساته الاقتصادية و قد أخذت بهذه النظرية مجموعة من البلدان منها الجزائر و مصر وسوريا جزئيا في الستينات و دول أخرى، و من هنا كان للتصنيع بعدا سياسيا تحرريا فاق في حالات كثيرة مع الأسف بعده الاقتصادي الحقيقي و أصبح في أحيان أخرى ذريعة لسياسات تمظهرية ذات طابع إيديولوجي ذو كلف الاجتماعية و اقتصادية عالية لا تتناسب مع المردود الاقتصادي الناجم عنها.

 و حتى لا يلتبس فهم ما تقدم لا بد من الإشارة إلى أن أحدا في العالم مهما كان انتماءه الفكري أو العقائدي أو الوطني يمكن أن يناقش أو يشكك في فضائل قيام اقتصاد صناعي متطور و قوي، و إنما المسالة ليست في مناقشة فضائل التصنيع بل في اختيار سياسات النمو وسياسات تخصيص الموارد الاقتصادية و المالية المتاحة، بشكل يؤدي إلى تعظيم نسب النمو بشكل عام و ليس تضخيم احد القطاعات على حساب القطاعات الأخرى مما قد يؤدي الى إصابتها بالشلل و خصوصا بعد أن دلت تجارب النمو لاحقا أن نسبة النمو العام على المدى الطويل لأي اقتصاد تكون قريبة دائما من نسبة نمو اقل القطاعات الاقتصادية نمواً و ليس المتوسط الحسابي لنمو القطاعات المختلفة كما كان يعتقد و يسود في الفكر الاقتصادي آنذاك .

و هكذا و منذ مطلع الستينات اندفعت بعض الحكومات في بلدان العالم الثالث في سياسات تصنيع متعددة الأشكال بعضها وطني و بعضها الآخر يعتمد على الاستثمارات الأجنبية و الشركات القادمة من الخارج و المحملة برأس المال و الخبرات كما كان ولا زال يقال..

 و الحقيقة أن الوقائع لم تؤيد هذه المذاهب. و أدت سياسات النمو غير المتوازن التي تقوم على التركيز على قطاع واحد هو التصنيع دون الاهتمام بالقطاعات الأخرى بدرجة كافية لا بل إهمالها و أهمها القطاع الزراعي إلى خلق اختناقات اقتصادية كبيرة بسبب الخلل و عدم التوازن و هي لم تؤدِ فقط إلى شلل القطاعات الاقتصادية الأخرى بل قادت إلى خنق القطاع الصناعي بالذات ووقف تطوره بسبب عدم وجود قدرات امتصاصية لإنتاجه من قبل القطاعات الاقتصادية الأخرى في الداخل بالإضافة للصعوبات التي كانت تواجه تصدير منتجاته إلى الخارج بسبب ضعف تنافسيتها كما.

و من جديد تظهر لدينا الآن مقولات ليست بعيدة عن هذا النمط من التفكير حيث تعلو الأصوات لا بل الصراخ أحيانا مدعوما بالإحصاءات غير المسنّدة بالوقائع أو المموهة بـأن رافعة التنمية و قطارها السريع لدينا سيكون قطاع السياحة و أن النشاط السياحي سيكون البديل في حال انحسار و نضوب النفط.

 و نشطت من اجل خلق هذا الشعور مجموعة من أصحاب المصالح و الشركات التي رأت في النشاط السياحي مدخلا حقيقيا للمضاربات العقارية و غطاءا حضاريا و اقتصاديا لمهن جديدة لمن ليس لديه مهنة كمهنة إقامة المؤتمرات و المعارض السياحية باعتماد أسلوب السياحة "المؤتمراتية" .

أما السياحة السياحية الحقيقية فلا زالت -رغم الإحصاءات الصادرة عنها و التي أصبحت محل تساؤل من قبل المختصين و غير المختصين- تحبو في مراحلها الأولى و ما تحقق من انجازات هو اقل بكثير مما تحقق في البلدان المجاورة في السنوات العشر أو العشرين الماضية أي منذ بدأنا الكلام عن أهمية الاستثمار في السياحة و صدور قانون الاستثمار السياحي لعام 1986 و هذا رغم الجهود المخلصة و الفائقة التي قامت بها وزارة السياحة و التي لا يمكن الإقلال من شأنها،ا إنما القضية هي في الإمكانات الحقيقية لهذا القطاع و ليس في التمنيات الورعة، و بالتالي نحن أمام حقيقة مرة على هذا الصعيد خصوصا إذا علمنا أن وضع القطاع السياحي كان ضعيفا في السابق و لا زال كذلك حتى الآن و ذلك لجملة أسباب تتصل بالبنية التحتية و أشياء أخرى هامة تدعونا للاعتقاد أن الرهان على جعل قطاع السياحة قطاعا أساسيا و رافعة للتنمية الاقتصادية في بلدنا أمر صعب المنال و أن قطاع السياحة كان و سيبقى قطاعا اقتصاديا هاما و مؤثرا و يجب تنميته و استغلاله إلا انه لن يكون القطاع البديل عن النفط أو غيره من القطاعات في حال انحسارها، لأنه بكل ببساطة لا يملك المقومات المادية للقيام بهذا الدور فهو شديد التأثر بالمعطيات و المناخات الخارجية الاقتصادية و غير الاقتصادية و بالتالي فهو لا يوفر أمانا اقتصاديا نحن بأمس الحاجة إليه رغم الحماس الذي يبديه من اجله دعاته و مريديه، فنظرية القطاع الاقتصادي البديل لا تملك مسوغات و جودها في قطاع السياحة لدينا كما أن نظرية قطب التنمية التي ارتكزت على الاعتماد على قطاع واحد هو القطاع الصناعي كقائد لعملية التنمية أخفقت تاريخيا بعد أن شكلت قي حينه مسألة خلافية و إيديولوجية خطيرة جدا و فشلت ليس على الصعيد الاقتصادي فقط بل لقد جرّت على بعض من طبقها اضطرابات اجتماعية و سياسية خطيرة كما قادت ليس فقط إلى فشل تجربة نمو القطب الاقتصادي القائد بل إلى فشل التجربة التنموية الوطنية برمتها في البلدان التي أخذت بهذه السياسات.

 و هكذا بعد أن ظهر أن سياسات النمو غير المتوازن في القطاعات الاقتصادية ذات نتائج غير مضمونة ساد الاعتقاد بضرورة العودة إلى سياسات النمو المتوازن لمختلف القطاعات الاقتصادية و التي تجعل من تنمية و تطوير قطاع الزراعة حجر أساس و نقطة البداية في أية سياسة تنموية حقيقية و واعية، و خصوصا أن تجارب النمو التاريخية جميعها لم تخرج عن هذه الحقيقة المؤكدة إذ لا نعرف في حدود ما نعلم أن هناك بلدا نما و تقدم و قامت فيه صناعة متطورة و لا زال قطاع الزراعة فيه متخلفا و كسيحا، و التاريخ الاقتصادي يفيدنا بوضوح أن الثورة الزراعية الأولى سبقت الثورة الصناعية الأولى و مهدت لها و تسمية بعض بلدان العالم الثالث بأنها بلدان زراعية لا يعني أن لديها قطاع زراعي متطور و مكتمل و لم يبق أمامها سوى تحقيق القفزة الصناعية، و هي اي هذه البلدان تعاني أكثر من غيرها من ضآلة الإنتاج الزراعي و الغذائي بالرغم من كبر عدد العاملين في القطاع الزراعي فيها وذلك بسبب الإنتاجية المتدنية في هذا القطاع و هي بالتالي أكثر من غيرها بحاجة إلى تطوير قطاع الزراعة لزيادة إنتاجه و إنتاجيته . و أما التذرع بقانون المردود المتناقص في الزراعة و ضآلة القيمة المضافة في العمل الزراعي مقارنة بغيره فهذه الحجة تضاءلت قيمتها إذا لم نقل اختفت بسبب التطور النوعي و الكمي الهائل الذي ادخله العلم و صنعته التكنولوجيا على صعيد الإنتاج الزراعي و تنميته.

يضاف إلى ذلك أن بقاء القطاع الزراعي خارج دائرة النمو الذي يشهده القطاع الصناعي أو غيره وفقا لنظرية قطب التنمية تجعل منه عبئا حقيقيا على النشاط الاقتصادي العام، و تجارب النمو الكبرى تظهر انه لا يوجد بلد متطور صناعي كبير واحد في العالم لا يملك زراعة متطورة و ساهمت الزراعة في تقدمه و تطوره الصناعي بالذات و ذلك بدأًًًً من اليابان في منتصف القرن التاسع عشر التي مولت حركة التصنيع فيها بواسطة الفائض الزراعي عبر الضرائب العقارية على الأراضي و صولا إلى الاتحاد السوفييتي الذي اعتمد أسلوبا مشابها لكنه قسريا و مبالغا فيه أحيانا من خلال سياسة التسعير الإجباري للمنتجات الزراعية و ذلك بأقل من قيمتها الاقتصادية لتحقيق الفوائض اللازمة لتمويل بناء قاعدته الصناعية الكبرى اعتبارا من منتصف العشرينات من القرن الماضي .

و قد بينت سنوات التسعينات لدينا و حتى الآن ،رغم الجفاف و سوء الأحوال المناخية الذي نرجو أن يكون مؤقتا، النتائج الباهرة لاعتماد سياسة النمو المتوازن و الاهتمام الفائق بالقطاع الزراعي حيث بدأت تظهر لدينا الفوائض الكبيرة في الانتاج بسبب زيادة المساحات المزروعة و زيادة إنتاجية وحدة الزراعة، و انتقلنا بقطاعنا الزراعي من مرحلة العجز و الاعتماد على الاستيراد إلى مرحلة الفائض و البحث عن أسواق للتصدير و عادت لقطاعنا الزراعي القدرة على القيام بمهامه التقليدية الأساسية التي مارسها عبر الزمن و هي تامين الغذاء ذو المنشأ النباتي و الحيواني لكل السكان و تامين المواد الأولية لصناعتنا المحلية و توفير فوائض قابلة للتصدير للمساهمة في تغطية أثمان مستورداتنا من الخارج و هكذا نرى أن القطاع الزراعي المتطور من خلال فوائضه الاقتصادية و البشرية يغطي حاجة بقية القطاعات بالأيدي العاملة و الغذاء و المواد الأولية المعدة للاستخدام الداخلي أو التصدير و من خلال زيادة دخله و رفع مستواه المعاشي ستتوفر لديه قوة شرائية تساعد على امتصاص و استهلاك مختلف منتجات القطاعات الاقتصادية الوطنية الأخرى.

من خلال ما تقدم تبدو الحاجة ماسة الآن لإعادة النظر بأولويات خططتنا التنموية و الاقتصادية والعودة إلى الخطوط العامة للتوجهات الاقتصادية التي سادت في الثمانينيات بفضل رعاية القائد الخالد لها آنذاك و التي خصت القطاع الزراعي بالأفضلية و الأولوية في سلم اهتمامات المسؤولين الاقتصاديين لدينا وفي خططنا الاقتصادية الخمسية و ذلك حتى لا تتجه استثماراتنا العامة و الخاصة الآن في أنشطة ومتاهات غير مأمونة على المدى المتوسط و الطويل و غير مقنعة بما يتصل بالمصلحة الاقتصادية الوطنية العامة، و دون أن يغيب عن ذهننا أننا في منطقة عالية الحساسية من الناحية السياسية و الاجتماعية و أن مسالة الأمن الغذائي و الاستقرار المعيشي لملايين المواطنين مسالة هامة و خطيرة و ذات أولوية مطلقة لاعتبارات كثيرة .

إن الاهتمام بالقطاع الزراعي و تطويره و إعادة تنظيمه لا تقتصر على الجوانب المادية فقط بل يجب أن يطول المؤسسات و البنى و القوانين الناظمة لكل عمليات الإنتاج الزراعي بمعطيات و عقل و منطق القرن الواحد و العشرين و دون التضحية بالمكتسبات الاجتماعية لجماهير الفلاحين التي يمكن تبريرها اقتصاديا و اجتماعيا و التي نراها تراعى و تحترم و تصان حتى في أعتى الأنظمة الرأسمالية في العالم.

من هنا تبرز الحاجة ماسة للنهوض بالقطاع الزراعي عبر سياسات و حلول تشارك في وضعها كافة الهيئات الرسمية و الجهات و الاتحادات المعنية و هذا يشكل في رأينا نقطة البداية لأن المسالة ذات أهمية فائقة وهي مسالة تتصل بدور القطاع الزراعي الاقتصادي و الاجتماعي و الوطني و الاستراتيجي فالقطاع الزراعي يعمل فيه بشكل مباشر وغير مباشر أكثر من 40% من الأيدي العاملة في بلدنا و يقدم بحدود 25% من الناتج المحلي الإجمالي تبعا لمستويات المواسم ، و علينا متابعة ما قمنا به في السابق إلا انه رغم ضخامة ما أنجزنا فنحن بحاجة للانتقال من التوسع الأفقي إلى التوسع الشاقولي أي التركيز على رفع المردود و الإنتاجية و ليس اتساع المساحات فنحن لسنا بحاجة إلى المزيد من الأراضي الزراعية بقدر ما نحن بحاجة إلى المزيد من الإنتاج و رفع الإنتاجية و المردود و تخفيض التكاليف بالإضافة إلى تحسين السوية النوعية له و تنافسية ما يعد منه للتصدير إلى الأسواق الخارجية، و ذلك من خلال توفير التمويل اللازم و اعطاء هذه المسألة أهمية فائقة بالإضافة للتأمين تجاه العوارض الطبيعية، و كذلك التوسع بالأبحاث و تطبيقاتها العلمية و الاستفادة من العلم و التكنولوجيا في أساليب الزراعة و أساليب الري الحديث و استخدام المياه المعقل و المرشد بسبب ضآلة ما نمتلك منها و التركيز على تنمية الثروة الحيوانية و التي تتوفر لدينا كامل مقومات نجاحها و استمرارها، و ربما كان أهل الاختصاص في هذه المجالات و الجهات المناط بها علاج هذه المسائل هم الأدرى بذلك .

لقد أنجز الكثير الكثير في الماضي إنما لنا حق مشروع بان نطالب بانجاز الكثير الكثير الآن و في المستقبل و خصوصا في ظل المناخات المأزومة حاليا و عدم الاستقرار و التحولات الجذرية التي تشهدها الاقتصادات الكبرى و الصغرى في العالم ،حيث يصبح الاهتمام بالأمن الاقتصادي الوطني و الأمن الغذائي على وجه الخصوص أولوية مطلقة من حسن الطالع أننا قادرون على تحقيقها.  

 




المصدر:
http://syriasteps.com/index.php?d=160&id=240

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc