سيرياستيبس كتبت ناتالي عازار
في الأيام الأخيرة، مشهد غير مألوف عاد يذكّر اللبنانيين بزمن الطوابير خلال الحرب: طوابير اليوم أمام محلات الصاغة، ليس على البنزين أو الخبز… بل على سبائك الفضة.الناس تنتظر دورها، والسبائك تُباع بالدولار "الفريش"، فيما الأسعار تتغيّر كل ساعة، والسلعة بدأت تُفقد من السوق. فماذا يحصل بالضبط؟ ولماذا الفضة الآن؟ من ذهب الفقراء إلى ملاذ الأزماتالفضة تُلقَّب عادةً بـ "ذهب الفقراء"، لكنها اليوم تحوّلت إلى أداة استثمار حقيقية في ظل تدهور الليرة اللبنانية وغياب الثقة بالمصارف. فمع عجز الناس عن شراء الذهب مع ارتفاع أسعاره، باتت الفضة خيارًا بديلاً ميسور الكلفة، يحفظ القيمة بعيداً عن الانهيارات النقدية.لكن خلف هذا "الطلب الشعبي"، هناك حركة أعمق، اقتصادية ومالية وربما سياسية، تعيد رسم خريطة سوق المعادن الثمينة في لبنان.الفضة هنا ليست مجرد معدن؛ إنها مرآة تحوّل المال اللبناني من ورقٍ هش إلى معدنٍ يُخزن خارج المؤسسات. الأسباب الظاهرة: الاستثمار في المجهولالعالم يشهد حالياً ارتفاعاً في الطلب العالمي على الفضة بسبب توسّع صناعات الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية، إذ تُعتبر الفضة من أفضل الموصلات الكهربائية.المحلّلون يتوقّعون ارتفاع سعر الأونصة خلال السنة المقبلة بنسبة قد تصل إلى 400 – 500% إذا استمرّ العجز في الإمدادات العالمية.هذه التوقّعات وصلت إلى السوق اللبنانية، فبدأت موجة شراء عشوائية، من الأفراد والتجّار على حد سواء، تحوّلت بسرعة إلى حمّى استثمار غير مضبوطة. الأسباب الخفيّة: تهريب وغسل أموال؟بحسب مصادر مالية، الفضة ليست مجرد سلعة استثمارية .فهي تُستخدم أحيانًا عبر شبكات التهريب أو كوسيلة لغسل الأموال:شراء سبائك نقدًا، ثم نقلها أو تخزينها حتى بيعها لاحقاً بسعر جديد لإضفاء "شرعية" على الأموال.ولا ننسى سهولة النقل وصعوبة تتبّع عمليات البيع والشراء في السوق غير المنظّمة، تجعل الفضة أداة مثالية لتحريك أموال غير مصرَّح عنها.وما يزيد الشبهات أن شركات أو تجّارًا محدّدين، بعضهم يمتلك رخص استيراد قانونية، بدأوا بإدخال كميات ضخمة من السبائك عبر المنافذ الرسمية، بحجّة “سدّ حاجة السوق”، بينما يُقال إن التمويل لا يأتي نقداً، بل على شكل سبائك تُحوَّل لاحقاً إلى سيولة داخلية. كيف تدخل السبائك إلى لبنان؟إدخال الفضة قانونيًا ممكن عبر مصلحة الجمارك، ضمن البند 71 من التعرفة الجمركية الذي يشمل المعادن الثمينة.لكن العملية تتطلّب:• تصريحاً جمركيًا (SAD) وفواتير تجارية أصلية.• التزامًا بقوانين مصرف لبنان المتعلقة باستيراد المعادن الثمينة.• خضوعًا لرقابة قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 44/2015.بمعنى آخر: كل سبيكة تدخل لبنان يجب أن تمرّ عبر الجمارك والفواتير الرسمية، لكن حين يُصبح السوق "مشتعلاً"، تنفتح ثغرات كثيرة في الرقابة، وتبدأ السبائك بالتدفّق عبر القنوات الرمادية. من يسيطر على السوق؟اللافت أن بعض كبار تجار المجوهرات، وغالبيتهم يملكون علاقات مالية وتجارية عابرة للحدود، هم اليوم المصدر الأساسي للسبائك في لبنان.يُقال إن بعض التجار، القادرين على الاستيراد قانونيًا بفضل تراخيص مصرف لبنان، بدأوا بتخزين كميات ضخمة من الفضّة تمهيداً لبيعها بأسعار مضاعفة مع اشتداد الطلب، والتحكم بالأسعار عبر ما يُعرف بالسوق السوداء.هكذا يتكرّر سيناريو الإحتكار: حاجة حقيقية في السوق، يُحوِّلها كبار التجار إلى فرصة للربح المفرط، فيما المواطن يقف بالطابور ويدفع الثمن. اقتصاد رمادي في ظل انهيار الدولةالفضة أصبحت في لبنان أكثر من معدن ثمين، إنها مرآة للواقع الاقتصادي الرمادي:لا مصرف موثوقًا، لا رقابة فاعلة، ولا ثقة بأي عملة.فحين تتوقّف الدولارات عن الوصول نقداً، تبدأ القيم بالتحرّك بأشكال أخرى: سبائك، قطع ذهبية، أو حتى شحنات إلكترونية مخفية.وفي بلد يعيش انهيارًا نقديًا وجيوسياسيًا طويل الأمد، تتحوّل كل سلعة إلى وسيلة للتحايل على نظام ينهار ببطء. الخلاصةمن يقف وراء “حمّى الفضة” في لبنان؟جزء من الجواب اقتصادي بحت ويتمثّل بخوف الناس من انهيار العملات.وجزء آخر سياسي – مالي، يرتبط بشبكات تمويل، احتكار، الى تهريب منظّم تحت غطاء قانوني.الناتج واضح على الأرض: زيادة في الطلب، نقص في العرض، ارتفاع أسعار، وظهور وسطاء وسوق سوداء تحول الفضة من معدن عملي إلى سلاحٍ اقتصادي في يد من يملكون رأس المال والقدرة على التحكّم. والمواطن البسيط، الباحث عن أمانٍ مالي، يقف في الصف ليشتري قطعة من غير أن يدرك أنَّ دوره يغذي منظومة تنقصها الشفافية.لكن المؤشرات، كالعادة، بدأت تظهر من "الفضة" قبل أن تُعلنها الأرقام. وبين الطوابير أمام محلات الصاغة، والأسعار التي ترتفع كل يوم، يبقى السؤال الأهم:هل نعيش بداية موجة جديدة من تحويل السوق اللبنانية إلى مصرف موازٍ بالمعادن؟ وما العمل أمام اقتصادٍ تُستبدل فيه الثقة بالقيمة الملموسة؟الزمن وحده سيكشف. أخبار البلد
|