بعد اقتحام «الدهماء الإرهابية» للكونغرس الأميركي، بحسب التوصيف الذي بات معتمداً في وسائل الإعلام الرئيسية لطليعة أميركا الترامبية التي زحفت إلى واشنطن لنصرة قائدها، دقّ الرئيس المنتخب جو بايدن ناقوس الخطر: الديموقراطية، الهشّة بطبيعتها، مهدّدة، وهي بحاجة إلى «الشجعان» لحمايتها. اجتياح الجموع الغاضبة للمؤسّسة «الأكثر قداسة» للديموقراطية الأميركية، و«المؤتمنة على حماية الدستور ومصالح الشعب»، صدم وأدمى قلوب جميع من أملوا، من الولايات المتحدة والعالم، أن تستعيد بلاد العم سام، بعد انتصار بايدن، وجهها «الناصع». سارع الأخير إلى التأكيد أنّ المهاجمين لا يمثّلون أميركا «الحقيقية»، لكن ما تجلّى بوضوح مع «هبّة الكابيتول الدامية» أمام أنظار شعوب المعمورة، هو الشرخ المتعاظم في داخلها وتمرّد قطاع معتبر من شعبها على النظام ومؤسّساته. تحميل ترامب وخطابه التحريضي مسؤوليةً حصرية عمّا جرى لن ينجح في حجب هذا الواقع. فحتى لو كانت كلمات الرئيس لها وزن كبير، كما أشار بايدن، فهي غير كافية لتفسير انفجار كلّ هذا الغضب. لم يقم ترامب سوى بصبّ الزيت على نار متّقدة، وقودها اقتناع راسخ لدى أميركا «العميقة»، أي سكّان الأرياف والمدن الصغيرة والمتوسّطة في وسط البلاد، أنّ النخب المعولمة والأقليات «المؤتلفة» في مدن الساحلَين الشرقي والغربي، سرقت منها انتصارها الانتخابي، لتكرّس سيطرتها على النظام السياسي ومقدّرات البلاد. أميركا العميقة كانت جزءاً من الكتلة الموالية للدولة، وحتى أكثر تيّاراتها وتنظيماتها تطرّفاً، كالميليشيات والمجموعات العنصرية، كانت من قوى النظام الأميركي القائم فعلاً على أرض الواقع، لا الذي يصفه الدستور، وقوة احتياطية من الممكن أن يستعين بها في مواجهة تحدّيات داخلية. لكنّ التحوّلات العميقة التي شهدتها أميركا والعالم، أدت إلى انفكاك هذه الكتلة عن النظام. وبما أنّ الأسباب البنيوية العميقة لهذا الانقسام الأهلي ترتبط بمشروع العولمة النيوليبرالية الذي رعته الإمبراطورية الأميركية منذ نحو أربعة عقود، وفقدت قدرتها على التحكّم فيه بسبب تراجع قدراتها وصعود دور المنافسين في إطاره، فإنّ مساعي الإصلاح التي وعد بها بايدن ستواجه مصاعبَ هائلة. هو محقّ في اعتباره الديموقراطية هشّة بطبيعتها، غير أنّ هشاشتها تتضاعف عندما تكون نظاماً سياسياً في مركز إمبراطوري تنحدر هيمنته.

النخبة السياسية الأميركية، بما فيها قسمٌ واسعٌ من تلك «الجمهورية»، تريد التخلّص من ترامب بسرعة وبأقل الأكلاف. الهجوم من كلّ حدب وصوب يتركّز على الرجل ورغبته المجنونة بالبقاء في السلطة بأيّ ثمن. مايكل هيرش رأى في مقال على موقع «فورين بوليسي»، بعنوان «أصبحنا نعرف الآن ما يترتّب على رفض رئيس التنازل عن السلطة»، أنّ «التداول السلمي للسلطة كان ممكناً أساساً، ليس بسبب المبادئ المنصوص عليها في الدستور، بل بفضل الأشخاص الذين التزموا بها واحترموها... ترامب نرجسي مريض انتخبه الأميركيون، وظهرت صفاته الأسوأ بأكثر الطرق دراماتيكية خلال الأيام الأخيرة لرئاسته. فمن دون أدنى الإثباتات على وجود تزوير، هو أطلق حملة لنزع الشرعية عن الانتخابات، ودعا أنصاره إلى الاحتشاد في واشنطن».

ما يزيد من حنق الكتلة البيضاء هو شعورها بضمور نفوذها في مقابل غير الغربيين


لا شك في أنّ جموح وانعدام توازن الرئيس الذي تشارف ولايته على الانتهاء قد لعبا دوراً في تأجيج التناقضات السياسية الداخلية، وكذلك نقمة «أميركا المهزومة»، لكنّ تناول هذا البعد حصراً في الخطاب السياسي والإعلامي السائد يشي بإرادةٍ للتعامي عن الأبعاد الأخرى لما وقع في واشنطن، خصوصاً تلك المتّصلة بقاعدته الموالية. حاز ترامب أصوات 74 مليون ناخب على رغم سلوكه المشين والعلني، والهجوم الإعلامي - السياسي الذي لم يتوقّف ضده. السؤال الجوهري الذي ينبغي أن يُطرح يتعلّق بهذه القاعدة الموالية الضخمة، التي تضمّ مكوّنات وازنة باتت ترفض الإقرار بشرعية النظام السياسي الأميركي ومؤسّساته المنتخبة، وتحضّ علناً على التمرّد عليه. مجموعات وتيارات يمينية متطرّفة، كالميليشيات وأنصار تفوّق العرق الأبيض والجماعات الإنجيلية المتشدّدة، ليسوا ظواهر جديدة في الولايات المتحدة. هم نمَوا باطراد مع بداية التسعينيات، وتوسّع نفوذهم في الحزب الجمهوري منذ تلك الفترة، خلال ما عرف بـ«الثورة المحافظة»، التي كان نيوت غينغريتش، النائب والمتحدّث باسم مجلس النواب بين عام 1995 - 1999، أحد أبرز رموزها، واستمرّت في الصعود مع ما سُمّي «حفلات الشاي»، في بداية الألفية الثانية. «ثورة محافظة» أيديولوجية - ثقافية، مغرقة في الرجعية، انتشرت في أوساط أميركا العميقة، داخل الحزب الجمهوري وخارجه، بالتزامن، وهذا هو اللافت، مع مسار العولمة وما رافقه من سرديات عن «القرية العالمية» و«التبعية المتبادلة والانفتاح»، و«نهاية التاريخ» والسيادة الأبدية لنموذج «ديموقراطية السوق». هذا المسار، الذي قادته وتحكّمت فيه في بداياته الولايات المتحدة، والذي ارتكز على ما سمّاه المؤرّخ البريطاني بول كينيدي «التوسّع الإمبراطوري الزائد»، هو سبب الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية البنيوية التي تفاقمت في أميركا في العقود الماضية. استندت السياسات الاقتصادية والاجتماعية النيوليبرالية الناجمة عن هذا المسار - الخيار، وما نتج عنها من تصفية للخدمات الاجتماعية العامة ومن تحرير للرساميل وللتجارة ومن نقل للصناعات نحو البلدان ذات اليد العاملة الرخيصة، إلى رهان النخب السياسية الأميركية في الحزبين الرئيسيين، على قدرة بلادهم على توظيف العولمة لخدمة مصالحها أولاً وتعظيم منافعها. غير أنّ الضمور المستمر في قدراتها على السيطرة، الوثيق الصلة بحروبها الباهظة الأكلاف والفاشلة في تحقيق أهدافها، والأزمة المالية والاقتصادية في عام 2008، في سياق تسارع صعود المنافسين على المستويات الاقتصادية والاستراتيجية على صعيد عالمي، جميعها عوامل بنيوية أسهمت في انحدار هيمنتها وتسعير تناقضاتها الداخلية. أميركا العميقة ترى نفسها ضحية لعولمة خدمت مصالح «الآخرين»، بدءاً بنخب الساحلين، وصولاً إلى الصين وجنوب شرق آسيا والهند وغيرها، على حسابها. وما يزيد من حنق هذه الكتلة البيضاء الغاضبة، المشحونة بموروث العنصرية الأميركية المتجذّر والأطروحات الجديدة المستلهمة منه، هو شعورها بضمور نفوذها في مقابل غير الغربيين، بل واعتقادها أنّها قد تخضع لهيمنتهم في بلادها. من يلقي نظرة على نظريات المؤامرة على الأميركيين «الأصليين» الشائعة في صفوف هذه الكتلة، لن يفاجأ بحصول ما هو أكبر وأعنف ممّا تمّ في الكونغرس. ولا ريب في أنّ تضافر الانقسامات السياسية، وتلك العرقية، الداخلية مع تلك الخارجية، المتمثّلة أولاً في احتدام «التنافس بين القوى العظمى»، سيفاقم من هشاشة الديموقراطية الإمبراطورية في السنوات المقبلة، ومن انحسار نفوذها المحتوم.