أعلنت روسيا، يوم الأربعاء الماضي، أن قوّاتها قذفت طلقات تحذيرية لإبعاد سفينة حربية بريطانية دخلت إلى ما تَعتبره الأولى مياهها الإقليمية في البحر الأسود. الحادثة، التي وقعت قبل أيّام من أكبر المناورات العسكرية لحلف «الناتو» في هذه المنطقة، وبعد أسبوع من القمّة التي عُقدت في جنيف بين الرئيسَين، الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، تُظهر صعوبة تخفيض التوتّرات الناجمة عن المنافسة الاستراتيجية بين الغرب وروسيا. الأصداء الإعلامية الإيجابية الناجمة عن قمّة بايدن - بوتين لم تنعكس إلى الآن على مستوى العلاقات بين بلدَيهما. بنظر جان سيلفستر مونغرونيي، الباحث في المعهد الجيوسياسي في جامعة «باريس8»، فإن تلك القمّة، التي اعتُبرت نصراً معنوياً بالنسبة إلى موسكو، لم تبعث آمالاً كبيرة في واشنطن. «بالنسبة إلى جو بايدن، فإن فكرة التأسيس لعلاقات جديدة مع روسيا غير موجودة أساساً. ما أرادته واشنطن بالفعل هو محاولة تحديد ما تُسمّيه بحذر جديد خطوطاً حمراء والسعي إلى تهدئة التوتّرات». وبحسب الباحث الفرنسي، فإن تجميد التناقضات المتنامية بين موسكو وواشنطن للسماح للأميركيين بالتركيز على التحدّي الصيني، هو مهمّة شبه مستحيلة؛ أوّلاً بسبب النوايا الاستراتيجية لموسكو التي لا تبحث عن تفاهمات مع الأميركيين والغربيين بشكل عام. «الأهداف الرئيسة للطرفين متناقضة. الولايات المتحدة والغربيون قوى محافظة ومستفيدة جوهرياً من النظام الدولي الذي جرى تشييده تدريجياً منذ 1945، وتريد إدامته على حاله. أمّا روسيا والصين، أو إيران، فهي قوى تحريفية، ومعادية جذرياً للوضع القائم وتعمل على تغييره»، وفقاً لمونغرونيي، الذي يعتقد، بناءً على ذلك، أن التقاطع الروسي - الأميركي مستبعَد جدّاً، باستثناء حدّ أدنى من التعاون لضبط سباق التسلّح والتفاوض حول الأسلحة النووية الاستراتيجية.
في التصوّرات الغربية السائدة، تُصنَّف روسيا دائماً على أنها طرف يعتمد سياسة هجومية


في التصوّرات الغربية السائدة، تُصنَّف روسيا دائماً على أنها طرف يعتمد سياسة هجومية، تُحرّكها رغبة دفينة في الانتقام، واستعادة السيطرة على الفضاء السوفياتي السابق، والتحكّم ببلدان باتت مستقلة. تبرّر هذه التصوّرات اتّباع استراتيجية الاحتواء حيال موسكو، باعتبار ذلك مقاومة مشروعة لتوجّهات روسية توسّعية تُحرّكها عقيدة الجوار القريب، المهيمنة لدى صنّاع القرار الروسي. لكن أصحاب تلك الرؤية يتناسون أن العواصم الغربية، في المرحلة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، اختارت إقصاء روسيا من جميع البنى السياسية والأمنية الجماعية. وأتى إدماج دول «حلف وارسو» السابقة في «الناتو»، و«أطلسة» أوروبا الشرقية بشكل كامل، ليُمثّل نسخة حديثة من استراتيجية الاحتواء التي طبّقتها الولايات المتحدة ضدّ الاتحاد السوفياتي، ولكن من دون وجود تهديد روسي تجاه أوروبا هذه المرّة. وكما يشير أندريه غراتشيف، مستشار الرئيس السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف، في كتابه «واشنطن في مواجهة موسكو: 30 عاماً من سوء الفهم والأخطاء»، الصادر في 2020، فإن «الإعلان من قِبَل بوش الابن في 2007، عن العزم على ضمّ جورجيا وأوكرانيا إلى الناتو، أيقظ لدى الاستراتيجيين العسكريين الروس مخاوف التطويق القديمة، التي سبق لستالين التنديد بها في 1946. وبعد أن جهر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعقيدته الجديدة في مؤتمر ميونيخ للأمن في 2007، تمّت ترجمتها ميدانياً في السنة التالية خلال الحرب الخاطفة بين بلاده وجورجيا، وكذلك بعد 7 سنوات، عبر الردّ الروسي الحازم على إطاحة الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش من قِبَل فريق موالٍ علناً للغرب». وقد دفع نشر بطّاريات صواريخ أميركية إضافية في أوروبا، وتزايد المناورات العسكرية قرب حدود روسيا، الأخيرة إلى تطوير «دبلوماسية نووية» تتمحور حول برامج لتحديث قوّاتها المسلّحة، وإنتاج منظومات سلاح قادرة على اختراق الأنظمة الدفاعية الأميركية.
التموضع الدفاعي لروسيا يُنظر إليه بسلبية شديدة من قِبَل دول «الناتو»، في سياق تَتجدّد فيه التوتّرات في أوكرانيا منذ 2014، وكذلك في بحر البلطيق وفي بيلاروسيا. المناوشة بين روسيا وبريطانيا في 23 حزيران الحالي هي حلقة جديدة تكشف تصاعد هذه التوتّرات في أوروبا. البريطانيون، الذين انبروا ليكونوا بمثابة «ناطقين رسميين» باسم «القضية الأوكرانية»، ولم يقبلوا بالأمر الواقع الذي فرضته موسكو في هذه المنطقة، يحاولون الضغط عليها قرب شواطئ القرم. وإذا كان من الطبيعي، برأي جان كريستوف مونغرونيي، أن «تتصدّى القوى الغربية لإرادة روسيا تغيير الوضع الدولي القائم»، فإنه من البديهي أيضاً أن تَجهد موسكو لتعديل موازين القوى لصالحها في ظلّ تحوّلات البيئة الاستراتيجية العالمية.

سيرياستيبس - الاخبار