لا يَحضر سلطان عُمان، هيثم بن طارق، قِمماً خليجية، ولا عربية. درجت السلطنة، منذ أيام السلطان الراحل قابوس بن سعيد، على إرسال نائب رئيس وزرائها إلى تلك القِمم. لكن هيثم حضر شخصياً القمّة التي انعقدت في أبو ظبي وشارك فيها أمير قطر، تميم بن حمد، وملك البحرين، حمد بن عيسى، والمضيف محمد بن زايد، ومن خارج «مجلس التعاون الخليجي»، الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وملك الأردن، عبد الله الثاني. احتار المتابعون المقيمون في الخليج في تفسير غياب ابن سلمان ومشعل الأحمد، اللذَين تلقّيا دعوة إلى الحضور وتجاهلاها تماماً، ولم يرسلا حتى مندوبين عنهما. والتلازم بين الاثنين يعود إلى عادة سارت عليها الكويت تقضي بالتضامن الكامل مع السعودية في مِثل هذه المناسبات، منذ أن استضافت المملكة أُسرة الحُكم الكويتية والكثير من أفراد الشعب، ومن ثمّ قوّات «التحالف» التي طردت الاحتلال الصدّامي من الكويت عامَي 1990 - 1991. ولِمَن لَفته حضور ملك البحرين، على رغم أن الدبابات السعودية شاركت بحمايته من الانتفاضة التي قامت في شباط 2011 عندما عبَرت الجسر بين البلدَين وانتشرت في المملكة الخليجية الصغيرة، فإن الرجل مربطه الأخير هم الأميركيون، لكونهم هم مَن أنقذوا نظامه، عندما رفضوا تأييد الانتفاضة (كما فعلوا في حالتَي مصر وتونس)، وعملوا على إحباطها من خلال استيعابها حينما نسجوا علاقات مع المعارضة، وكذلك من خلال الحماية الدائمة التي يوفّرها الأسطول الخامس الأميركي الذي يتّخذ من البحرين مقرّاً له، وأيضاً الدخول الإسرائيلي الأخير المغطّى أميركياً على خطّ أمن النظام.

إذاً، عندما يكون الخيار لملك البحرين بين أميركا والسعودية، فإنه لا يستطيع إلّا أن يعضّ على جرحه ويختار أميركا، حتى لو كان الثمن إغضاب ابن سلمان، الذي قد يتفهّم أو لا يتفهّم دوافعه للحضور. في ما عداه، فإن كلّ مَن حضروا القمّة لديهم مشكلات ثنائية مع السعودية، قبل ابن سلمان وبَعده. فالعلاقات بين كلّ من قطر وعُمان من جهة وبين السعودية من جهة أخرى، سيّئة منذ سنين، إلى الدرجة التي تبرّر لحاكمَي البلدَين وضع خلافاتهما الخاصة مع ابن زايد، وهي كبيرة جدّاً، جانباً، إذا كان ثمّة مشروع لتوجيه ضربة سياسية لابن سلمان، لا سيما وأن الأخير يحاول مدّ نفوذه إلى الخليج برمّته، والتأثير في توجّهاته، وعدم ترْك دور لأيّ أحد آخر. كذلك، يبدو أن السيسي يريد بيْع السلعة نفسها للسعودية مرّتَين، بعد أن جفّفت الأخيرة إلى حدّ كبير التمويل المجّاني الذي تقدّمه لمصر، بداعي تراجُع الجدوى، وفَتحت في المقابل «حنَفية» الإنفاق على الأحداث الرياضية للترويج لنظامها. وكان موقع «أكسيوس» الأميركي، المتخصّص في شؤون الاستخبارات والقضايا العسكرية، قد أشار في تقرير له الشهر الماضي، إلى «تباطؤ» مصري في تنفيذ التسليم النهائي لجزيرتَي «تيران وصنافير» اللتين يُفترض أن الرئيس المصري باعهما للمملكة وأثار غضباً في مصر تجاوَز أوساط المعارضة «الإخوانية» إلى الجمهور المصري العام.

الولايات المتحدة تحاول منذ أشهر طويلة انتزاع ابن زايد من براثن ابن سلمان في منظّمة «أوبك»


لكن «الغلّ الأكبر» ضدّ ابن سلمان يبقى أميركياً، وبالتحديد من إدارة جو بايدن التي أذاقها وليّ العهد السعودي المُرّ، وجنّد ضدّها كلّاً من إسرائيل والحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، ثمّ تلاعَب معها مرّة برفع أسعار النفط، وتوفير شروط مريحة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في الحرب مع أوكرانيا، ومرّة أخرى بجلب الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى منطقة منابع النفط في الخليج، وإقامة «همروجة» خليجية وعربية له (غاب عنها ابن زايد). وبالتالي، فإن فكرة اللعب معه في الداخل الخليجي والمحيط العربي المؤثّر، تبدو خياراً «مثالياً» من جانب الأميركيين الذين سبق أن فعلوا أشياء مماثلة، بل يمكن القول إن كلّ تلك الخلافات الخليجية المُشار إليها آنفاً كانت موضع استغلال أميركي في السنوات السابقة. والحالة بين قطر والسعودية (وحلفائها، وللمفارقة مِن ضِمنهم الإمارات ومصر والبحرين) يمكن كتابة وقائع وتحليلات بشأنها تملأ صفحات جرائد. ولِمَن يستغرب كيف يمكن أن يصبح خصم الأمس صديق اليوم والعكس بالعكس في الخليج، فهذه هي العادة هناك، حيث الشُغل على القِطعة، وحيث يمكن لدولتَين أو أكثر أن تتحالفا على أمر وتتصارعا على آخر، وأن تتحالفا على أمر يوماً، ثمّ تتصارعا على الأمر نفسه في اليوم التالي.


ليس سرّاً أن الولايات المتحدة تحاول منذ أشهر طويلة انتزاع ابن زايد من براثن ابن سلمان في منظّمة «أوبك»، حيث يبدو أن تلك الجهود قد بدأت تؤتي أكُلها، بفضل ما يَظهر أنه خوف الأوّل من الدور الطاغي الذي يحاول الثاني القيام به في الخليج، وفي العالم باسم الخليج، بعد أن كانت النُسخ السابقة من الحُكم في السعودية تحفظ للإمارات دورها، بل إنها ساهمت مساهمة كبيرة في صُنع هذا الدور في أيام زايد بن سلطان حتى وصلت تلك الدولة إلى ما هي عليه اليوم، وذلك على رغم أن حاكم الإمارات الحالي بدا لوهلة حليفاً لجاره السعودي ضدّ الإدارة الأميركية الحالية. يحاول ابن زايد، منذ أكثر من عام، زيادة حصّة الإمارات من الإنتاج في «أوبك»، وحين فشل في تحقيق هذا الهدف انتقل، برعاية الأميركيين، في الأسابيع الماضية، إلى محاولة الخروج من المنظّمة كلياً. فهو لا يخفي ضيقه من طغيان ابن سلمان على المنظّمة، والذي فَرض بالتحالف مع بوتين خفضاً هائلاً للإنتاج بواقع مليونَي برميل يومياً في مطلع تشرين الأوّل الماضي، ليصيب حصص كلّ الدول المنتِجة، نكاية بالإدارة الأميركية الحالية التي وقفت ضدّه منذ تولّيها السلطة، وأخرجت له تقرير الاستخبارات الأميركية الذي يتّهمه مباشرة بإصدار الأمر بقتل الصحافي جمال خاشقجي. فالرئيس الإماراتي يميل أكثر إلى البقاء تحت الجناح الأميركي لحماية نظامه، وهو أقام لذلك أكثر العلاقات دفئاً مع إسرائيل من بين الدول العربية كافة التي أقامت علاقات معها، ولذا يُفترض أن يتعاون نفطياً مع الأميركيين أيضاً.
هل كان مصادفة أن يتّصل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، ونائبة الرئيس، كمالا هاريس، بمحمد بن زايد، ليلة الثلاثاء، قبل ليلة واحدة من انعقاد القمّة، لإعادة تأكيد التزام الولايات المتحدة بأمن الإمارات في الذكرى الأولى للهجمات الصاروخية اليمنية التي استهدفت دبي وأبو ظبي، أم أن واشنطن تشتغل على الخلافات المتعاظمة بين الإمارات خاصة، وبين السعودية، لتضمّ الأولى إلى منظومة دول خليجية وشرق أوسطية أخرى تقف في وجه «جرّافة» ابن سلمان، والتي تسعى إلى تجريف الخليج والشرق الأوسط سياسياً، كما تجرّف السعودية فعلياً لإقامة المشاريع الكبرى التي يريد الرجل من خلالها تحويل المملكة إلى «سعودية عظمى»؟ وفي الوقت الذي تُوضع فيه حرب اليمن على طاولة المفاوضات بين السعودية وحركة «أنصار الله»، للمرّة الأولى بهذا الاتّساع والجدّية، لا يمكن فصْل القمّة عن ما يجري في هذا البلد، حيث للدول المشاركة فيها مصالح، من بين أكبرها مصلحة الإمارات، الشريك الأساسي للسعودية في العدوان، وإنّما المنافس الأساسي لها في الوقت نفسه، وفق ما أظهرتْه السنوات القليلة الماضية، وصولاً إلى القتال بين حلفاء الدولتَين. ولا يمكن كذلك فصْل ما يجري في تلك المفاوضات، عن الدعوات المتزايدة أخيراً لانفصال الجنوب الذي تتحكّم فيه الإمارات.