بعد تأجيل اللقاء الذي كان مقرّراً في شباط الماضي، نتيجة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا بدايةً، ورفْض الأخيرة الانخراط في المسار قبل أن تتحدّد أرضية واضحة تفضي إلى انسحاب القوات التركية من المناطق التي تنتشر فيها شمال البلاد، عُقد اللقاء الرباعي على مستوى نواب وزراء خارجية كلّ من سوريا وتركيا وروسيا وإيران؛ علماً أنه كان من المفترض أن يجري على مستوى وزراء الخارجية، قبل أن يخفّض مستوى التمثيل، كخطوة أولى يمكن أن تمهّد للقاءات على مستويات أعلى، غير أن مخرجات اللقاء لا تُظهر أيّ تقدُّم يُعتدُّ به.


المسار الذي أعلنت دمشق سابقاً رفضه، من دون وضع أجندة واضحة له، يمثّل انسحاب القوات التركية هدفها النهائي، عادت للانخراط فيه بفعل ضغوط إيرانية وروسية، وعلى أُسس «واضحة ومعلَنة» تدور جميعها في فلك تحويل الوعود الشفهية التركية بسحب القوات، إلى جدول أعمال مكتوب وواضح، على أن تلعب كلّ من طهران وموسكو دور الضامن لتنفيذه، وذلك بالتوازي مع الاتفاق على تنفيذ خطوات مشتركة من شأنها حلّ أزمة اللاجئين، والتعاون في مجال ضبط الحدود. وتلك نقاط تشي تصريحات نائب وزير الخارجية السوري، أيمن سوسان، الذي رأَس وفد بلاده، بأنه لا محلّ لها على أرض الواقع، بعد عقْد ثلاثة اجتماعات على مدى يومَين (اجتماعان سوري - روسي وسوري - إيراني، وثالث رباعي). وإذ أشار سوسان، في الكلمة التي ألقاها خلال الاجتماع الرباعي، إلى أن «التوصيف القانوني للوجود العسكري غير الشرعي على الأراضي السورية سواء في شمال شرقي سوريا (قواعد التحالف الذي تقوده واشنطن)، أو في شمال غربها (القواعد التركية)، ومِن قِبَل أيٍّ كان، واضح للغاية (...) ينتهك أحكام القانون الدولي، ويخالف مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، كما يتعارض مع علاقات حسن الجوار والمبادئ الناظمة للعلاقات السلمية بين الدول، ومع كلّ قرارات مجلس الأمن ذات الصلّة بسوريا»، فهو فتح الباب أيضاً أمام تعاون كبير مع الجارة الشمالية، لا سيما في مسألتَي المخاطر الأمنية واللاجئين. وأوضح أن «وجود أيّ خطر إرهابي يَفرض عمليّاً وقانونيّاً التعاون والتنسيق مع الدولة المعنيّة لمواجهته (...) يمكن التعاون في موضوع عودة اللاجئين السوريين من تركيا إلى أماكن إقامتهم الأصلية في سوريا، وهذا الأمر يتطلّب العمل على توفير المتطلّبات والبيئة اللازمة لذلك، بما فيها تحقيق الأمن والاستقرار عبر بسْط سلطة الدولة على أراضيها وتهيئة البنى التحتية والتمويل اللازم، والجانب السوري مستعدّ لاتخاذ الإجراءات التي تقع على عاتقه بناءً على ذلك». وفي كلمته، أعاد رئيس الوفد السوري التذكير بوعود تركية سابقة بسحب قوّاتها من الأراضي السورية، والتزامها بحلحلة ملفّ إدلب، وهو ما لم تفِ به، قائلاً: «لم نرَ حتى الآن أيّ مؤشرات إيجابية بخصوص انسحاب القوات التركية من سوريا، أو بخصوص محاربة الإرهاب والقضاء عليه في شمال غربي سوريا، وبالأخصّ في منطقة إدلب، وإعادة بسط سلطة الدولة على هذه المنطقة، لا بل إن تركيا لم تلتزم حتى بالتفاهمات التي تمّ التوصل إليها في إطار أستانا أو مع الجانب الروسي»، فاتحاً الباب أمام تعاون جدّي تكون هذه المرة موسكو وطهران شريكتين فيه، ضمن خطّة تتضمّن انسحاباً دقيقاً للقوات التركية من إدلب، واستعادة الجيش السوري السيطرة عليها بشكل سلس.

 

بدأت «هيئة تحرير الشام» إشعال الشمال السوري بمعارك على جبهات عدّة


الاجتماع الذي جاء بعد يوم من عقْد الوفد السوري لقاءات ثنائية مع الجانبَين الروسي والإيراني، أعادت خلالهما دمشق التشديد على ثبات مواقفها، تحوّل بمجمله إلى طاولة لطرْح الأفكار، حيث قام كلّ وفد بتقديم ما لديه، على أن يتمّ تحديد موعد للقاء آخر، أَعلنت الخارجية الروسية أنه سيكون على مستوى وزراء الخارجية، موضحةً أن المشاركين في الاجتماع الرباعي عرضوا مواقفهم بصورة مباشرة وصريحة واتّفقوا على مواصلة الاتصالات، وأن المشاورات بحثت مسائل الإعداد للقاء بين وزراء خارجية هذه الدول. وتضع المخرجات الضئيلة للاجتماع، وتمسُّك دمشق بثوابتها، الانتقال إلى خطوة لاحقة أكبر على عاتق أنقرة، التي باتت بحاجة ماسة إلى هذا الانفتاح لتعزيز حظوظ الرئيس رجب طيب إردوغان في الفوز، لا سيما وأن الملفّ السوري يلعب دوراً حاسماً فيها. وبطبيعة الحال، تدرك الحكومة التركية هذه النقطة، إذ أعلنت في مرّات عدة سابقة نيّتها سحْب قوّاتها من سوريا، وهو ما لا تنظر إليه دمشق بتفاؤل نتيجة تجارب سابقة غيّرت أنقرة خلالها مواقفها ونكثت بعهودها، ما يفسر أيضاً إصرار الحكومة السورية على الخروج ببيان مكتوب تضمنه إيران وروسيا، ويتضمّن تنفيذ التعهّدات، ويمنع حكومة «حزب العدالة والتنمية» من الالتفاف عليها، كما يضمن أن تكون هذه التعهّدات صادرة عن الدولة التركية، أيّاً كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية.


اللقاء الذي جاء بدفع روسي واضح، يهدف، بمحصلته، إلى تحقيق قفزة على طريق حلّ الأزمة السورية، وفق المسار الروسي، وبوساطة إيرانية، يمكن النظر إليه على أنه خطوة أولى صغيرة، نجحت فيها موسكو وطهران في رفع مستوى التواصل بين سوريا وتركيا، من المستوى الأمني والعسكري إلى المستوى السياسي، على أمل أن تحقّق قفزات أوسع في المرحلة المقبلة. ويحتاج ما تقدَّم إلى مباحثات دقيقة بين الأطراف الأربعة، نتيجة تغوّل الدور التركي في الحرب السورية طيلة السنوات الـ12 الماضية وتشعّبه، بشكل يعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب. ويعني هذا، في حال التوافق على مسألة إدلب والشمال السوري، الانتقال إلى مرحلة لاحقة يشكّل فيها التخلّص من الوجود الأميركي هدفاً مشتركاً للأطراف الأربعة.
ميدانياً، وبينما كانت الوفود الأربعة تعقد جلستها المطوّلة في موسكو، بدأت «هيئة تحرير الشام»، التي تستشعر ارتفاع الخطر مع كل خطوة تقرّب وجهات النظر السورية - التركية، إشعال الشمال السوري بمعارك على جبهات عدّة، آخرها إعزاز التي تَشهد اشتباكات عنيفة بين فصائل تابعة لـ«الجيش الوطني»، وأخرى بايعت زعيم «الهيئة»، أبي محمد الجولاني، تضمّ كتائب تابعة لـ«فريق ملهم التطوعي» الذي يتمتّع بعلاقات قوية مع رجل «القاعدة» السابق. ويؤكد هذا المسار مواصلة «تحرير الشام» تنفيذ مخطّطها لقضم الشمال، وصولاً إلى معبر «باب السلامة» مع تركيا في إعزاز، والمعابر التي تصل مواقع سيطرة الفصائل في ريف حلب مع مناطق سيطرة «قسد»، وأبرزها معبر «الحمران» في جرابلس، حيث تشهد مواقع سيطرة الفصائل في ريفَي حلب الشرقي والشمالي حالة استنفار كبيرة، وسط معارك تزداد كثافتها بشكل يومي قد تنتهي بفرض «الجولاني» نفسه «أميراً» على ريف حلب، تمهيداً لأيّ تطوّرات قد تجبره على التخلّي عن إدلب.