سيرياستيبس :
شهدت دمشق وريفها تحولاً اقتصادياً كبيراً، حيث أصبحت المركز الاقتصادي الجديد لسوريا، مستحوذة على أكثر من 80% من الشركات الجديدة، مع تركيز الاستثمارات الكبرى في العاصمة ومحيطها.
- تراجع دور حلب الاقتصادي بشكل ملحوظ بسبب الدمار، وهجرة الكفاءات، والعزلة، مما أثر على قطاع النسيج الحيوي، رغم احتفاظها بإمكانات اقتصادية كبيرة واهتمام دول الجوار.
- يواجه الاقتصاد السوري تحديات بسبب التركيز الاقتصادي في دمشق، مما يفاقم الفوارق الاجتماعية ويزيد التبعية للخارج، مع ضرورة دعم الصناعة المحلية لمواجهة المنافسة الخارجية.
"تنويه: الملخص مُنشأ بالذكاء الاصطناعي يُنصح بمراجعة النص الأصلي."
هذه الخدمة تجريبية
باتت دمشق وريفها اليوم، في مشهد جديد يختلف كثيراً عن الجغرافيا الاقتصادية السابقة لسوريا، التي كانت تحتل فيها حلب مكان الصدارة، بوصفها العاصمة الاقتصادية للبلاد. إذ أظهرت نسب التوزيع الخاصة بالشركات المرخصة منذ بداية العام الحالي حيازة دمشق وريفها على النسبة الأكبر.
وبالموازاة، تركزت معظم مذكرات التفاهم الاقتصادية التي وقعها الحكومة السورية الجديدة في العاصمة ومحيطها أيضا، في تحول لافت في المشهد الاقتصادي المتوجه نحو التجارة الخارجية وسط ظروف كارثية تطول التصنيع المحلي.
ومع أن الأرقام الرسمية المحدَّثة حول الشركات المرخصة في سوريا منذ بداية العام، لا تفيد في معرفة أماكن توزع هذه الشركات ومن بينها محافظة حلب، إلا أن بعض التقارير المستقلة تؤكد توزع معظم الشركات المرخصة في دمشق وريفها.
ماذا تخبرنا الأرقام؟ مؤخراً، أكدت وزارة الاقتصاد والصناعة، وصول عدد الشركات المسجلة في سوريا منذ بداية العام، حتى نهاية شهر أيلول/سبتمبر الماضي إلى 11172 شركة لدى مديرية الشركات في الوزارة.
وأوضحت الوزارة في إحصائية، رصدت فيها عدد الشركات المسجلة لدى مديرية الشركات منذ بداية العام ولغاية الربع الثالث من العام أن عدد الشركات المسجلة كسجل تجاري فردي بلغ 8693 شركة، في حين وصل عدد الشركات المسجلة كشركات أشخاص إلى 1044 شركة، منها 942 شركة تضامنية، و102 شركة توصية.
كما بينت الوزارة في إحصائيتها، أن عدد شركات الأموال التي سجلت خلال الفترة المذكورة بلغت 1435 شركة، منها 17 شركة مساهمة، و1418 شركة محدودة المسؤولية، مشيرة إلى أنه تم شطب سجلات 1418 شركة منها 1164 سجلاً تجارياً فردياً، و254 شركة سجل شركات.
وبحسب البيانات التي جمعتها جريدة سيريا ريبورت الاقتصادية، فإن أكثر من 80% من الشركات المحدودة المسؤولية التي تأسست في سوريا خلال النصف الأول من هذا العام كانت تقع في دمشق ومحيطها.
ويعتقد رئيس تحرير جريدة سيريا ريبورت الاقتصادية جهاد يازجي أن هذه البيانات، تعطي مؤشرًا على حجم العاصمة السورية في الاقتصاد الوطني، وما يُسببه ذلك من اختلال في التنمية والتوزيع الجغرافي للثروات، والتحديات المُستقبلية، لافتاً إلى أن "هذا يُبدد بالطبع وهم أن حلب كانت عاصمة سوريا الاقتصادية، حيث لم يكن هناك سوى 8% من الشركات المُسجلة في النصف الأول من هذا العام".
البيانات التي أوردتها سيريا ريبورت يمكن أن تؤكد جزءاً منها ما كشفه رئيس غرفة تجارة دمشق وريفها عبد الرحيم زيادة، مؤخراً، عن تقدم 3200 منتسب جديد للغرفة، أسسوا شركات وأعمالاً جديدة في مختلف مناطق المحافظة خلال العام الجاري، ما يعكس رغبة قطاع الأعمال للمساهمة في نهضة سوريا الاقتصادية، مؤكداً أن الغرفة ستقدم كل ما تستطيع لتسهيل أعمالهم ودعمها.
تراجع مقلق لحلب ويرى الباحث الاقتصادي ملهم الجزماتي أن الأرقام تشير إلى تراجع مقلق في الدور الاقتصادي لمدينة حلب، فحتى نهاية شهر آذار/مارس الماضي، لم تحظَ المدينة سوى بتسجيل 9 شركات جديدة فقط من أصل 97 شركة أُسست على مستوى سوريا، أي بنسبة لا تتجاوز 9.3%، في حين استحوذت دمشق وريفها على نحو 78.4% من إجمالي الشركات الجديدة.
ويضيف الجزماتي خلال حديث لـ موقع تلفزيون سوريا أن هذا الرقم لا يعني أن حلب خرجت من المشهد الاقتصادي تماماً، لكنه يكشف بوضوح عن تقلص تأثيرها الكبير الذي كان يمتد لعقود طويلة.
وأوضح أن حلب كانت تسهم قبل عام 2011، بنحو 24% من الناتج المحلي الإجمالي السوري وتضم ثلث الصناعات الوطنية، وكانت تُعد المركز الصناعي الأول في البلاد.
ومع ذلك، فقدت المدينة هذا الدور تدريجياً بسبب مجموعة من العوامل المعقدة، أبرزها الدمار الواسع الذي لحق بالبنية التحتية الصناعية خلال سنوات الحرب، وهجرة الكفاءات وأصحاب الخبرات الذين شكّلوا ما يمكن تسميته بـ "الذاكرة الصناعية" للمدينة.
وفي قطاع النسيج الذي كان يُعد من أهم القطاعات الصناعية في حلب، تشير التقارير إلى أن نحو 10% فقط من الشركات ما زالت عاملة، في حين تضرر أو توقّف نصف المنشآت الصناعية في مناطق مثل مدينة الشيخ نجّار الصناعية.
وإضافة إلى ذلك، أسهمت العزلة الجغرافية والسياسية في إضعاف موقع المدينة، إذ أدّى قربها من مناطق التوتر وانقطاع طرق التجارة التاريخية مع العراق بسبب سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على الشرق إلى حرمانها من أسواقها الطبيعية. كما أن ضعف التمويل الصناعي وغياب الخطط الحكومية الجادة لإعادة الإعمار الصناعي عمّقا الأزمة، وجعلا من عودة حلب إلى موقعها السابق مهمة شاقة لكنها ليست مستحيلة، وفقاً للباحث ملهم الجزماتي.
المركز الاقتصادي الجديد.. في دمشق وريفها؟ بناء على المعطيات السابقة، يرى الباحث ملهم الجزماتي أن دمشق وريفها تحولت إلى المركز الاقتصادي الفعلي في سوريا، ليس فقط من حيث حجم تسجيل الشركات الجديدة، بل أيضاً من حيث حجم الاستثمارات الموجهة إليها. فبالإضافة إلى استحواذهما على أكثر من ثلاثة أرباع الشركات الجديدة، تُظهر بيانات مذكرات التفاهم الموقعة مع الشركات الأجنبية أن معظم الاستثمارات الكبرى تتركز في العاصمة ومحيطها.
على سبيل المثال، يوضح الجزماتي، أنه من أصل عشرين مذكرة تفاهم موقعة خلال عام 2025 بقيمة إجمالية تبلغ تسعة عشر مليار دولار، ذهب معظمها إلى مشاريع في دمشق وريفها، كما شهد المنتدى السوري–السعودي للاستثمار في يوليو 2025 توقيع سبعٍ وأربعين اتفاقية بقيمة 6.4 مليار دولار، استهدف معظمها مشاريع بنية تحتية وتطويراً عمرانياً في دمشق وريفها.
ويعزو الجزماتي هذا التركز إلى جملة من العوامل، منها المركزية الإدارية والسياسية التي تجعل دمشق الأقرب إلى دوائر القرار، إضافة إلى استقرارها النسبي مقارنة بغيرها من المحافظات، وتوافر البنية التحتية الخدمية والمالية فيها، فضلاً عن طبيعة الاقتصاد السوري الراهن الذي أصبح قائماً على التجارة والخدمات بنسبة تقارب 80% من الشركات الجديدة، وهي أنشطة تميل بطبيعتها إلى التمركز قرب الأسواق الاستهلاكية والإدارية الكبرى.
خروج مؤقت من المشهد من جانبه، يشير الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي إلى أن حلب ليست عاصمة الاقتصاد في سوريا في الوقت الحالي على الأقل، لكنها تبقى محركاً أساسياً للاقتصاد الوطني.
ويضيف قضيماتي خلال حديث لـ موقع تلفزيون سوريا وجود اهتمام كبير من دول الجوار بحلب وخاصة من قبل تركيا، ما يؤهلها للعودة إلى صدارة المشهد الاقتصادي مجدداً.
ومن الطبيعي، وفقاً لقضيماتي، أن تحوز دمشق وريفها على الكم الأكبر من الشركات المرخصة نظراً للسمة التجارية للنشاط الاقتصادي في هاتين المحافظتين، خلافاً لحلب التي يغلب على مشهدها الاقتصادي النشاط الصناعي وانتشار المصانع والورشات، ومن المهم جداً ملاحظة هذا الفارق في تقييم الواقع الاقتصادي لكل منطقة، خاصة وأنه يؤكد عدم تغير الديمغرافيا الاقتصادية في البلاد.
ومن جانب آخر، لا يرى قضيماتي أي رابط منطقي بين توزيع الثروات الوطنية وتوزيع الشركات المرخصة، لأن الثروات لا تتعلق بالمنطقة أو المحافظة بل هي ملكية عامة للدولة، وبناء على ذلك لا يمكن الحكم على أن هذه المنطقة خارجة من التوزيع الجغرافي للثروات لصالح مناطق أخرى من مجرد قياس نسب توزع الشركات التجارية.
ورغم أن عدم حصول حلب على نسبة كبيرة من الشركات المرخصة واعتماد نشاطها الاقتصادي على التصنيع، إلا أن ذلك لا يعني أن الواقع الاستثماري في المحافظة متلائم مع كونها العاصمة الاقتصادية للبلاد، وفقا لقضيماتي.
ويلفت قضيماتي إلى أن حلب تواجه تحديات عديدة في الوقت الراهن، أبرزها ما يتعلق بتهالك البنية التحتية بسبب الحرب، بالموازاة مع التحديات القانونية التي تكبل الاقتصاد وهي تشريعات تحتاج إلى تعديلات جذرية. ويشير إلى تحديات أخرى تتعلق بمقاييس الجودة العالمية التي انخفضت في سنوات الثورة في ظل عدم توفر شركات تجارية أو صناعية تزاحم الشركات العالمية.
ويؤكد وجود كم هائل من الشركات الصناعية في حلب كانت مرخصة قبل الثورة، ولأن المنتجات السورية التي كانت تصنع في حلب كانت تصدر إلى الخارج فلا يمكن العودة إلى التصدير من دون إعادة تفعيل التراخيص القديمة، وهي إجراءات تحتاج إلى وقت خاصة مع كونها تستلزم عودة الصناعيين الذين غادروا البلاد في سنوات الثورة.
ما نتائج هذا التحول؟ يرى ملهم الجزماتي أن هذا التحول سيخلق اختلالاً واضحاً في التنمية وتوزيع الثروات، وأن تحول المدن التاريخية مثل حلب وحمص وحماة من مراكز إنتاجية فاعلة إلى أطراف اقتصادية مهمشة، في حين تتركز الثروة والفرص في العاصمة سيعمق الفجوة الاجتماعية ويضعف تماسك الاقتصاد الوطني، لأن الاعتماد على محور اقتصادي واحد يجعل البلاد أكثر هشاشة أمام الصدمات الخارجية.
ويعتقد أن استمرار هذا الاتجاه يحمل في طياته تحديات اجتماعية واقتصادية وسياسية جمة. فعلى الصعيد الاجتماعي، يؤدي التركيز المفرط في دمشق إلى تفاقم الفوارق الطبقية والمناطقية، ويحفّز موجات هجرة داخلية نحو العاصمة بحثاً عن فرص العمل، ما يفاقم الضغط على خدماتها وبنيتها التحتية ويزيد البطالة في المدن الأخرى.
أما اقتصادياً، فإن الاعتماد على النشاط التجاري والاستيراد بدلاً من الإنتاج المحلي الحقيقي سيحول دون تحقيق نمو شامل ومستدام، ويضعف القدرة التنافسية ويزيد من التبعية للخارج. وعلى المستوى السياسي والأمني، فإن تهميش مدن كبرى مثل حلب قد يزرع شعوراً بالغبن يمكن أن يُستغل لاحقاً لخلق توترات وعدم استقرار.
من جانبه، يشير المحلل الاقتصادي محمد صالح الفتيح إلى أن الاختلال الحقيقي في التنمية لا يتعلق ببروز مدينة على حساب مدينة أخرى، بل باختلال مجمل قطاعات الاقتصاد السوري.
ويضيف الفتيح خلال حديث لـ موقع تلفزيون سوريا أن سوريا تحتاج الآن إلى خلق فرص عمل، لا إلى التوسع بالاستيراد الذي سيزيد نسبة البطالة بشكل مؤكد. ولا يمكن للأنشطة التجارية المعتمدة على الاستيراد أن توفر فرص العمل التي تحتاجها البلاد.
ويشير إلى وجود اختلال عميق مرشح للتفاقم في الاقتصاد السوري. فهناك ثلاثة قطاعات رئيسية للاقتصاد: القطاع الأولي (Primary sector) ويشمل إنتاج المواد الخام خبر الزراعة والتعدين واستخراج الثروات الطبيعية المختلفة، والقطاع الثانوي (Secondary sector) القائم على تحويل هذه المواد الأولية إلى منتجات مصنعة، والقطاع الثالث (Tertiary sector) المعتمد على الخدمات بأنواعها المختلفة والتي تشمل التجارة (commerce).
ويوضح أنه في الدول المتقدمة، مثل الدول الغربية، عادة ما تتوزع القوى العاملة على هذه القطاعات وفق النسب التالية 5 إلى 10% في القطاع الأولي، 20 إلى 30% في القطاع الثانوي، والنسبة الأكبر هي للقطاع الثالث، قطاع الخدمات.
وفي دول العالم الثالث ومنها سوريا تكون النسبة معكوسة في معظم الحالات فيستأثر القطاعان الأولي والثانوي بالقسم الأكبر من فرص العمل. ونجد في تركيا مثلاً أن هذه القوة العاملة موزعة على هذه القطاعات الثلاث كما يلي: 20% و30% و50%.
ويرى أن ما سبق لا يعني أنه يكفي تشديد القيود على الاستيراد ومحاولة دعم الصناعة السورية، فالمشكلة أكثر تعقيداً من هذا لأن العالم دخل مرحلة الثورة الصناعية الرابعة التي تعتمد على الروبوتات والذكاء الاصطناعي الذي يخفض من كلفة التصنيع بشكل غير مسبوق، وهذا ما يشجع بدوره الدول المتقدمة على العودة إلى التصنيع المحلي.
ولفت إلى أن هذا يعني أن المنتجات التي يمكن أن تصنع في سوريا عموماً، وفي حلب خصوصاً، لن تمتلك القدرة على المنافسة في الخارج. وهذا يعني أيضا أن المنتجات الصناعية الصينية التي تخسر أسواقها الغربية ستتجه إلى إغراق أسواق دول العالم الثالث. وشكاوى الصناعيين في حلب في الأشهر الأخيرة من إغراق الأسواق المحلية بالألبسة والأحذية الصينية المنخفضة الكلفة (وهذا المشهد لم يكن موجوداً في 2010) هي مجرد أمثلة على الأمر الواقع الجديد.
وتأسيساً على ما سبق، يرى الفتيح أن المستقبل الصناعي لحلب، ومجمل مستقبلها الاقتصادي يبدو قاتماً وذلك لأن البضائع المستوردة مرشحة لأن تخنق الصناعة المحلية وتمنعها من المنافسة. ويرجح أن الهزة المقبلة مرشحة لأن تكون أسوأ بكثير من الهزة التي شهدتها حلب منذ قرن من الزمن نظراً لأن الحلبيين في عشرينيات القرن الماضي، كانوا قد راكموا رؤوس أموال تسمح لهم بالانتقال التدريجي من الإنتاج اليدوي نحو التصنيع الآلي، ولأن المواد الأولية المطلوبة للإنتاج الصناعي كانت متوافرة، خلافاً للآن. يضاف إلى ذلك أن التوجه الإجمالي للحكومة هو باتجاه تحرير الاستيراد، وتخفيض الرسوم الجمركية التي باتت تفرض بحسب وزن البضائع المستوردة وليس بحسب قيمتها.
تلفزيون سوريا
|