كتبت ميساء رزق : 

لا يمكن أن تغيب صورته عن بالي، رجل تجاوز الخمسين من عمره، تظهر علامات الفقر على ملبسه النظيف ومحياه، التقيته في محل للخضار في حيّنا الشعبي المعروف عنه رخص أسعاره عن بقية المحال بعشرات الليرات التي إن جمعتها بكمية شرائك تصل المئات توفيراً.
لفت نظري بتنقله بين (طبليات) الخضار والفواكه، يتحسسها ويناظر سعرها المكتوب على كرتونة بخط كبير، وللعلم لا يوجد صنف يقل عن الثلاثة آلاف ليرة، وبين تحسسه للأنواع المفروشة بكميات كبيرة، يُدخل يده بجيب بنطاله ويجسّ ما بداخلها ويخرجها وهو يزفر ملء رئتيه، لم أستطع رفع عينيّ عنه بفضول عرفت معه ما يفكر به، لقد مرّت يداه على جميع الأصناف لعدة مرات وفي كل مرة يزداد ارتجافهما وقطرات العرق تتصبب مهرولة على وجهه المكفهر.
لقد أصبح شغلي الشاغل وهو يراقب بحسرة من ينتقي مشترياته ويدفع ثمنها ويغادر، وبعد وقت أعتقد أنه فكّر خلاله بألف فكرة وفكرة وجمع وطرح وقسّم ما خزّنت عيناه من أسعار وما يتوافق مع ما جسّه بجيبه، واستجمع شجاعته وأخذ نفساً عميقاً وتناول كيساً ليضع فيه بالعدد ثلاث حبات من البندورة مع حبتي خيار وحبتي بطاطا وخمس حبات من الخوخ وبصلتين، وتوجه بخجل للبائع ليقول: "دخيل عينك احسبلي حقّون"، والنتيجة ٨٧٠٠ ليرة دفعها بعد معركة داخلية شرسة دارت بينه وبين نفسه خرج منها خاسراً لفقره.
 استأذنته بتصوير مشترياته وافق بلا تردد وليقول: "دبرناها اليوم وبكرا كيف؟
القتل من أكبر الكبائر، فتخيلوا كم هو حلال قتل الفقر حتى قالها الإمام علي كرم الله وجهه: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته".
قتل الله الفقر وقَاتَل مُسببيه.

المشهد

طباعة هذا المقال أرسل إلى صديق