في عام 2014 كتب الاستاذ الجامعي الدكتور "الياس نجمة " مقالاً شهيراً حمل
عنوان " أفكار حول الوضع النقدي الراهن " اتسم بالواقعية و بالجرأة غير
المسبوقة لجهة الطرح والحلول في آن معا دون إغفال خصوصية الاقتصاد السوري
..
اليوم وفي ظل الوضع الحالي تبدو أفكار الدكتور " نجمة " مناسبة تماماً
للأخذ بها وإن تأخرت 10 سنوات , ويبدو من المهم جداً مناقشتها بروية
واهتمام , خاصة وأنّها تصلح أكثر من أي يوم مضى كخارطة طريق أمام الإدارة
الجديدة للبلاد لفهم ما يجري ووضع خطة وطنية لإصلاح الوضع النقدي وبالتالي
الاقتصادي في سورية.
يحدد الدكتور نجمة خمس نقاط أساسية لفهم كيفية التعامل مع النقد بعد
استدراك ما يجب تعديله :
أولاً: إن الاضطرابات والتقلبات المفاجئة في سعر صرف النقد الوطني اتجاه
غيره من العملات، هي أخطر وأكثر ضرراً بكثير من هبوطه أو ارتفاعه، ولها
انعكاسات اقتصادية ونقدية واجتماعية مخيفة، فهي تزعزع الثقة وتثير حالة من
عدم اليقين وعدم الاستقرار في مجمل مؤشرات الاقتصاد الوطني، مما يتيح الفرص
للمحتكرين والمتلاعبين وتجّار الأزمات بجني أرباح هائلة على حساب المواطن
العادي، خصوصاً عندما يكون الاقتصاد مكشوفاً، والعنصر الخارجي في تحديد
مستويات الأسعار الداخلية كبيراً، كما هو الحال في بلدنا.
ثانياً: قوة النقد تعتمد عل قوة الاقتصاد والثقة , فالثقة هي من أهم
الضمانات التي يجب أن تتمتع بها السلطات النقدية وذلك حتى يكون لإجراءاتها
وقراراتها فاعلية وتأثير، لأنه في حال فقدان الثقة تصبح قرارات المؤسسات
النقدية عديمة الأثر وغير ذات مصداقية وقد عانينا من ذلك بما فيه الكفاية
في السنوات الأخيرة الماضية .
ثالثاً: الاحتياطي النقدي بالعملات الأجنبية يشكل قوة رادعة للمضاربين،
وتجب الحفاظ عليه وزيادته، وتجنب استخدامه في التدخل في سوق الصرف، إلا
للضرورة القصوى، ولفترة قصيرة جداً، وذلك بفاعلية كبيرة وسرية مطلقة. فقد
دلّت التجربة النقدية التاريخية أن سلبيات التدخل أحياناً أكبر من
إيجابياته، كما أن إيجابياته مؤقتة وسلبياته دائمة، لأنه يشكل اعتراف صريح
بضعف قيمة العملة الوطنية واهتزاز الوضع النقدي وتضعضع هيبته، كما يُفقد
صانع القرار النقدي قوة الردع التي يوفرها له الاحتفاظ بالاحتياطي الكبير.
"اليوم قد يكون من الضروري التوجه نحو بناء احتياطي نقدي على أسس سليمة
وإدارته بطرق علمية "
مثال تاريخي: في بداية الثمانينات انهارت الليرة اللبنانية وكان لدى مصرف
لبنان المركزي احتياطي ذهبي يقدّر بعشرة مليون أونصة ذهب، وقد طلب آنذاك
وزير المالية كميل شمعون من حاكم مصرف لبنان المركزي الدكتور إدمون نعيم،
التدخل بالسوق عبر بيع قسم من الذهب، للدفاع عن الليرة اللبنانية. رفض
الحاكم آنذاك وقال جملته الشهيرة: "إذا كان لدينا عشرة مليون أونصة ذهب
والليرة تنهار، فماذا سيكون الأمر عندما نفقد نصف ذهبنا؟.
رابعاً: إن الاضطراب وعدم الاستقرار الحاصل في سعر صرف العملات الأجنبية
لدينا، والأثار السلبية الخطيرة جداً، الناجمة عنه على حياة الناس، وعجز
السلطات النقدية والحكومية في هذا المجال عن إيجاد الحلول المناسبة عبر
الإجراءات النقدية والمالية الواعية، اضطرها للجوء للإجراءات القسرية في
معرض ممارستها لمهامها، حيث يعلم الجميع والتجربة التاريخية برهنت، إن
الإجراءات القسرية في أمور تخضع لقوانين السوق هي بالأساس ذات طبيعة مؤقتة،
كما أنها ذات كلفة اجتماعية اقتصادية وسياسية ونقدية باهظة جداً، وأكثر من
ذلك لا ندري الآن إلى أين نتجه فهل لدى المصرف المركزي جواب جدي ومقنع حول
هذا الواقع المرير؟ ما هي مسؤوليته في كل ما يجري من اضطراب وتأثيرات
سلبية على مستوى الأسعار؟! ولا يفوتنا هنا من الإشارة إلى إن المصرف
المركزي قام بمجموعة إجراءات وتدخلات في سوق الصرف، إلا أن سياسات التدخل
التي مارسها كانت عشوائية واستعراضية، فتارة يلجأ للمزادات، وتارة لبيع
القطع إلى سماسرة وشركات صرافة، ومنذ سنوات يلجأ الى سياسات حبس الكاش
وتقييد السحوبات بحجة حماية سعر الصرف , وقد ثبت مدى حجم وخطورة التجاوزات
والألاعيب التي مارسها بعضهم في سوق الصرف، والتي أضرَّت أضراراً بالغة
بسعر صرف النقد الوطني، علماً أن تدخل المصرف المركزي يجب يكون سرّياً
تماماً، وعبر مؤسسات مصرفية موثوقة، ويقف خلفه إدارة نقدية ذات مصداقية
وموثوقية وملاءة معنوية حتى يكون فعالاً، ويهدف أولاً وأخيراً للوصول إلى
سعر صرف واقعي من الناحية الاقتصادية، ومقنع ومستقر ومن الممكن الدفاع عنه
من الناحية النقدية، والثبات عنده في حال وقوع اية تداعيات ظرفية أو طارئة
مهما كانت طبيعتها.
خامساً: من كل ما تقدم تبدو الحاجة ماسة الآن لتقييم النتائج الفعلية
والحقيقية للسياسات النقدية التي طبقت في في البلاد خاصة خلال الأزمة ،
والتي كانت تعوّض عن فقرها الفكري والعملي وعدم تبصّرها بالضجيج الإعلامي
والصراخ والتصريحات المضحكة التي تدعو للسخرية والشفقة، والتي مع الأسف كان
لها نتائج سلبية وأضرار على استقرار قيمة النقد الوطني واستقرار سعر صرفه
بالإضافة للأزمات المتكررة في سعر الصرف التي عانينا منها ، كما أنها لم
تقم بأي فعل إيجابي على صعيد الاحتياطي النقدي الذي استقر لدينا بين عام
2005 وعام 2011 في حدود 18 إلى 20 مليار دولار، وتجدر الإشارة، أنه في نفس
الفترة أيضاً تضاعفت موجودات المصرف المركزي اللبناني من الاحتياطات
النقدية بالعملات الأجنبية أكثر من أربعة مرّات، في حين لم تتغير لدينا،
وكان بالإمكان في سورية، لو توفرت السياسات النقدية والاقتصادية الواعية
تحقيق ما جرى في لبنان وأكثر، وذلك نظراً للتدفقات النقدية الهائلة بالقطع
الأجنبي التي وردت إلى سورية خلال تلك السنوات.
أخيراً: تشير الدلائل أن موجودات المصرف المركزي من العملات الأجنبية قد
اضمحلت كثيراً ، وهي بحسب التقديرات وبكل المقاييس غير كافية، رغم
التصريحات الغائمة والسطحية وغير المفهومة أحياناً التي يطلقها من حين لأخر
حُكام المصرف حول الموضوع والتي أدّت دائماً لزيادة الشكوك بدلاً من
إزالتها.
لذا نقترح " وما زال الاقتراح ممكنا " أن يقوم المصرف المركزي من أجل دعم
احتياطيه من النقد الأجنبي، بطرح إسناد قروض بالعملات الأجنبية وذلك بقيمة
عشرة مليار دولار أميركي وذلك بفوائد معتدلة ولمدة خمس سنوات، يكتتب بها
السوريين المقيمين وغير المقيمين، أشخاص عاديين أو اعتباريين، خصوصاً أولئك
الذين تصدّروا الصفوف الأولى في النشاط الاقتصادي، التجاري والمالي،
المصرفي والعقاري بصورة عامة والذين حققوا أرباحاً خيالية لا بل فلكية،
بسبب انفتاح السوق الداخلي أمامهم " وكان عطشاً"، بعد فترة طويلة من تطبيق
السياسات الاقتصادية والنقدية المتحفظة، واستفادتهم من العديد لا بل
الكثير، من التشريعات والإعفاءات، التي صدرت ، سواء على صعيد الاستثمار أو
سياسات الاستيراد" المنفتحة أحياناً بدون ضوابط"، بالإضافة لتراخي ومحاباة
التكليف الضريبي لهم سواء على صعيد أرباحهم الرأسمالية أو غير الرأسمالية.
هذا ومازالت هذه الافكار صالحة لتكييفها مع الظروف الحالية .. لتبدو
أفكارا خارج صندوق تفكير السلطات النقدية في البلاد لكنها داخل السياسات
النقدية المنطقية والعلمية الواضحة النتائج .
الدكتور الياس نجمة : سفير سابق لسورية في فرنسا - رئيس سابق للجنة
الموازنة في مجلس الشعب