سيرياستيبس :
بعد أكثر من عقد من الحرب والعزلة الاقتصادية، شهدت سوريا انفتاحًا تجاريًا مفاجئًا أخرج الأسواق من حالة الركود الطويل. عاد المستهلك السوري بشغف إلى اقتناء البضائع الأجنبية التي حُرم منها لسنوات، فغمرت الأسواق منتجات مستوردة من كل الأصناف والجودة. هذه الموجة، كما يوضح صناعيون، أربكت السوق المحلية وأضعفت الطلب على المنتج الوطني الذي لم يتمكن بعد من استعادة توازنه بعد سنوات الحرب والإغلاق.
تحوّل في المزاج الاستهلاكي
مع مرور الوقت، بدأت مظاهر "عقدة الأجنبي" تتراجع في السلوك الاستهلاكي. فالمستهلك السوري، الذي اندفع في البداية إلى اقتناء المستورد لمجرد اختلافه، بات اليوم يبحث عن الجودة والضمان قبل الاسم.
في هذا السياق، يشير الصناعي ورجل الأعمال فراس تقي الدين إلى أن هذه التحولات تصب في مصلحة الصناعة الوطنية، إذ يلاحظ أن كثيرًا من السوريين يعودون تدريجيًا إلى العلامات المحلية المعروفة بجودتها واستقرارها قبل الحرب، والتي بدأت تستعيد نشاطها تدريجيًا بعد خروجها من مرحلة التجميد والقيود الإدارية السابقة.
اقتصاد مثقل وطلب ضعيف
لكنّ عودة الثقة بالمحلي لا تكفي وحدها لإحياء الصناعة. فالسوق، كما يقول تقي الدين في حديثه مع "المدن"، مثقلة بعوامل ضعف متعددة، فالاقتصاد السوري لم يتعافَ بعد من آثار الانفتاح المفاجئ على الاستيراد، الذي تسبب بخروج مليارات الدولارات من الدورة الاقتصادية في وقتٍ قصير، إذ "دخلت إلى البلاد بضائع كثيرة بلا ضوابط كافية، بعضها عالي الجودة وكثير منها رديء أو مضر، ما أدى إلى تشويه السوق وخللٍ في توازن العرض والطلب".
ويضيف تقي الدين أن تسريح أعداد كبيرة من العاملين في مؤسسات الدولة، وغياب الاستثمارات الحقيقية أو الدعم المالي الخارجي الكافي، زاد من ضعف القدرة الشرائية للسكان، فبقيت الأسواق شبه راكدة رغم امتلائها بالبضائع.
صدمة الانفتاح
ولتوضيح أثر الانفتاح على الاقتصاد، يرى المستشار الاقتصادي ورئيس مجلس النهضة السوري عامر ديب، أن الانفتاح الحالي للسوق السورية هو "تحول من سوق احتكار قلة إلى سوق منافسة تامة". ويضيف في حديثه مع "المدن": "في السابق، كانت أسعار السلع ترتفع بشكل كبير نتيجة الاحتكار، ما رفع التضخم وأثر سلبًا على القدرة الشرائية للمواطنين. أما اليوم، فإن المنافسة تؤدي بشكل طبيعي إلى انخفاض الأسعار، وبالتالي تقليص التضخم، خصوصًا أن هناك شريحة واسعة من الشعب كانت محرومة من السلع الأجنبية".
وبحسب ديب فإن السياسات السابقة لحماية المنتج الوطني، مثل ترشيد الاستيراد وحماية الصناعة المحلية، كانت تترك أثرًا سلبيًا على المواطن والاقتصاد، إذ استفادت القلة فقط، بينما تعرضت أغلب الصناعات لتقييد أو فساد أدى إلى إضعاف القطاع الاقتصادي.
التحدي ليس في الانفتاح بل في العقلية
يشدد ديب على أن المشكلة الحالية ليست في الانفتاح نفسه، بل في "عقلية الصناعي والتاجر السوري". ويشير إلى تجربة عام 2007 عندما فتح النظام السابق السوق أمام البضائع التركية، ففشلت المصانع السورية في منافستها وأغلق بعضها، رغم تحسن المؤشرات الاقتصادية. السبب، بحسبه، ليس نقص الأدوات أو الأساليب، بل منهجية خاطئة لدى الصناعي السوري ورفضه التكيف مع المنافسة، خاصة بالنسبة للربح، إذ اعتاد بعض الصناعيين على هامش ربح مرتفع جدًا ولم يتقبل انخفاضه.
ويضيف أن الصناعي اليوم بحاجة إلى إعادة تأهيل منهجي وفكري وفق قوانين السوق الجديدة، وقد يستغرق ذلك سنة كاملة لاستيعاب التغيرات الحاصلة في السوق.
انفتاح محفّز لا مقيِّد
ورغم هذه الظروف، لا يرى تقي الدين أن الحل في وقف الاستيراد أو الانغلاق على الذات. على العكس، يعتبر أن الانفتاح، حين يُدار بعقلانية، يمكن أن يشكل حافزًا لتطوير الصناعة السورية. فالمنافسة، كما يقول، تدفع الشركات الوطنية إلى تحديث خطوط إنتاجها وتحسين الجودة لتستطيع مجاراة المستورد، بدل أن تبقى محمية خلف قيود جمركية تعطل روح المبادرة.
إزالة العوائق قبل طلب الحماية
ومع ذلك، يشدد تقي الدين على أن المنافسة لا تكون عادلة ما لم تُزال العقبات التي تعترض طريق المنتج السوري. ويوضح أن مكافحة التهريب وضبط نوعية المستوردات خطوة أولى أساسية، وأن تسجيل اسم المستورد والمواصفات على السلع الأجنبية ضروري لتحميل المسؤولية الفنية والصحية. كما يرى أن فرض رسوم جمركية مرتفعة على السلع التي لها بدائل وطنية سيحمي الإنتاج المحلي، في حين يجب خفض الرسوم على المواد الأولية إلى أدنى حدّ لتسهيل التصنيع.
ويشير إلى أن تحسين بيئة العمل الصناعي يمر أيضًا عبر تأمين الكهرباء والطاقة بأسعار تنافسية، وتسهيل ترخيص التجمعات الصناعية بدل الضغط على المستثمرين لنقل مصانعهم قسرًا إلى المدن الصناعية الكبرى.
الاستيراد والأدوات الاقتصادية
كذلك، يؤكد ديب أن منع الاستيراد أو رفع الرسوم على البضائع ليس الحل، فـالحل يكمن في دعم الصناعيين القادرين على التنافس، من خلال دعم التصدير وتمويل قروض ميسرة، وتخفيض حوامل الطاقة مع مراقبة الأسعار، وتحفيز زيادة الإنتاج ما يؤدي تلقائيًا إلى خفض الأسعار. كما يشير إلى أن توفر الكهرباء واستقرارها يساهم في خفض التكلفة حتى مع ارتفاع حوامل الطاقة.
عدالة تجارية لا انغلاق
وبالإضافة إلى دعم الإنتاج، يدعو تقي الدين إلى تفعيل مبدأ المعاملة بالمثل في العلاقات التجارية، معتبرًا أنه من غير المنطقي أن تبقى الأسواق السورية مفتوحة أمام بضائع دولٍ مثل الأردن ومصر بينما تفرض تلك الدول قيودًا على دخول المنتجات السورية إلى أسواقها. ويرى أن الدبلوماسية الاقتصادية السورية مطالبة بالتحرك لتصحيح هذا الخلل وإعادة التوازن التجاري بما يخدم المصلحة الوطنية.
أمثلة على الانفتاح الناجح
أما ديب فـيشير إلى أن الدول المفتوحة مثل تركيا، الإمارات والسعودية أثبتت أن الانفتاح لا يضر بالصناعة المحلية بل يشجعها على التكيف والمنافسة. كما يلفت إلى تجربة إدلب خلال الحصار، إذ استمرت المصانع في العمل رغم الحرب وكانت متاحة للسوق التركي والعالمي، دون مطالبة بوقف الاستيراد أو حماية صناعاتهم.
النهضة من الداخل
وتجارب النجاح هذه تؤكد أن النهضة الاقتصادية الحقيقية تبدأ من الداخل السوري، كما يوضح تقي الدين، أن حماية الصناعة الوطنية لا تعني إغلاق الأبواب، بل خلق بيئة إنتاج عادلة ومنافسة متكافئة. فالنهضة الاقتصادية، برأيه، تبدأ من الداخل: من توفير الطاقة بأسعار عادلة، ومنح التمويل الميسر للمصانع، وتفعيل الدعم الحقيقي للمصدرين. عندها فقط، يمكن للمنتج السوري أن يستعيد مكانته في السوق، ويعود ليلعب دوره في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني من جديد.
المدن
|