سيرياستيبس
تبنت الإدارة السورية الجديدة بعد سقوط النظام السابق اقتصاد السوق “الحر” كخيار استراتيجي، معلنة بذلك إحدى أبرز محطات التحول العميق الذي بدأ في 8 كانون الأول 2024. ويأتي هذا الإعلان بوصفه خطوة كبرى و”موقف دولة” طال انتظاره لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً، منذ إطلاق ميخائيل غورباتشوف مشروع “البيروسترويكا” وما تبعه من انهيار الاتحاد السوفييتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي وانحسار المنظومة الاشتراكية معه. ضبابية مزمنة والواقع أن الاقتصاد السوري لم يكن اشتراكياً يوماً، فلهذا النمط استحقاقات ثقيلة عجزت عنها الدولة. ولم يكن رأسمالياً لأن الاصطفاف السياسي فرض نفسه عنوة بين معسكرين. بل كان اقتصاداً غير منتمٍ، هجين، متفلّت من كل اشتراطات التماهي شكلاً وتطبيقاً، مع سلسلة طويلة من فصول “فوات المنفعة” المفترضة في الانتماء الصريح. فالأدبيات الاقتصادية العالمية ترفض سياسات “التغميز باتجاه اليسار والانعطاف نحو اليمين”. بعد العام 2005 أمعنت مقصورة قيادة الدولة أكثر في خلط أوراق اقتصادها، وأدخلته في متاهة أكثر تعقيداً عندما أعلنت اقتصاد السوق الاجتماعي نهجاً مبتكراً، وكان في الواقع ملتبساً أشغل الجميع بتفسير دلالاته لا بمقتضاه. في تلك الأجواء الضبابية تسلل إلى عمق البيئة الاقتصادية السورية نمط اقتصادي غريب، لا عام ولا خاص، بل “خصوصي” بدأ يتبلور ويتضخّم تحت عناوين “الليبرالية عند الحاجة” التي مارسها النائب الاقتصادي عبد الله الدردري، صلة الوصل والوسيط النشط بين رأس النظام وبيوت المال في سوريا وما حولها. على مثل هذه الأرضية تضخمت استثمارات الطبقة “الامتيازية” وتعزز استحكامها بالسوق على المستويين الإنتاجي والتجاري والخدمي عمومًا، ليغدو التوصيف الدقيق لحقيقة الاقتصاد أنه “رأسمالي متوحش” دفع فاتورته من بقي في هذه البلاد من ملايين السوريين. تصويب سلس كان إعلان الدولة الجديدة عن نهج الاقتصاد الحر كخيار دولة، تصويباً لمسارات مختلّة على مرّ عقود طويلة، وإجلاء الالتباس المزمن الذي طالما حيّر العالم في الطريقة المناسبة للتعامل مع سوريا. ليكون من الطبيعي والأفضل عزلها. وإن كانت إحدى أكبر الهواجس القائمة في مرحلة التحوّل هي تلك المتعلقة بالآثار الاجتماعية المتوقعة على الشريحة الأوسع من المجتمع، فإن الحقيقة الأكيدة أنه لم يبق ما يمكن أن يلفح السوريين ولم يحصل، فقد عبروا برزخ التبعات الصعبة المفترضة للتحول خلال حقبة الفقر المدقع التي عاشوها على مرّ السنوات الماضية. وهذا سيقفز بهم مباشرة إلى خانة حسنات النمط الاقتصادي الجديد. تلقّف الفكرة وتطبيقاتها تلقى السوريون انعكاسات إيجابية مباشرة لنمط اقتصادهم الجديد بمجرد تحرير بلادهم. وكانت أولى الإشارات تدفق سلعي ووفرة في أسواقهم لم يشهدوها منذ أكثر من عقد من الزمن، والأهم أسعار متهاودة بنسبة 50%، إلى جانب تعدد الخيارات في قوام السلّة الاستهلاكية. كما تراجع سعر صرف الدولار من عتبة 16 ألف ليرة سورية في السوق السوداء ووصل إلى ما دون 9 آلاف ليرة سورية، وتحوّل الطلب على الليرة أكثر من الطلب على الدولار. وتوالت – كما الحلم – تدفق وفود رجال الأعمال والأخرى الرسمية لاستكشاف سوريا الجديدة التي شرعت للتو أبوابها أمام الجميع. جرأة الاتتقال يسترجع الخبير الاقتصادي والمالي أنس الفيومي، معالم النهج الاقتصادي الغامض الذي ساد في سوريا خلال العقود الماضية. حتى عندما قيل أن الاعتماد سيكون على اقتصاد السوق الاجتماعي كان هذا الاعتماد يفتقد لأدوات كثيرة يفترض أن تتوفر لدى الدولة والأفراد، وأن تهيأ لها مقومات النمو واستمراره. ويتساءل الفيومي سؤال العارف في حديثه إلى “المدن”: هل كانت العلة في الأدوات أم بالقرار أو من يصدره والجرأة على العمل ضمن نهجه دون مساءلة من جهات أمنية أو رقابية. المهم وفقاً للخبير المالي والاقتصادي، أمام هذه الفوضى السابقة ومع أول خطوات التحرير كان لا بد من اتخاذ القرار الجريء بالتوجه نحو الاقتصاد الحر، مع ما يخلقه هذا التوجه ضمن المقومات المتوفرة في حينه والقدرة على تقبله وتبنيه من اهتزاز قوي في بنية الاقتصاد. لكن المراهنة كانت على أن فترة الاهتزاز لن تطول وسرعان ما سيجد النهج مقومات استقراره والانطلاق الجيد نحو مستقبل اقتصادي قوي مستقر مع توفر الدعم الخارجي والعلاقات الجيدة مع الدول الأخرى ومؤسسات التمويل. متطلبات هنا يلفت الفيومي إلى أن حماية الملكيات الفردية ووسائل الإنتاج ودعم تأسيس الشركات وتسهيل عملها وخلق سوق منافس شريف وتحديد الأسعار بناء على قاعدة العرض والطلب.. إلى آخر ما يميز اعتماد الاقتصاد الحر ومبادئه الأساسية. يتطلب بالطرف المقابل فريق عمل إشرافي قوي من الوزارات المعنية لمنع الوقوع في مخاطر محتملة كسيطرة الشركات الكبيرة القوية على السوق وتهميش دور المشاريع المتوسطة والصغيرة، وتقليل الهوة بين طبقات المجتمع عبر تحسين الدخل. والأهم ألا تكون الغاية هي تحقيق الربح فقط على حساب الدور الاجتماعي المنوط بالدولة، والتي لا يجوز لها أن تغفله وخاصة في المراحل الأولى لهذا الانتقال الصعب. مسؤولية قطاع الأعمال وهنا يأتي دور غرف الصناعة والتجارة بتشكيل فرق عمل على تواصل دائم مع الفريق الحكومي لضبط حركة الإنتاج والسوق والتكاليف ووضع الحكومة بصورة أي خطورة محتملة لكافة السلع ولاسيما السلع الأساسية. إذ لا شك في أن المرحلة القادمة ليست سهلة وتحتاج لعمل جاد من الأفراد والمؤسسات بشفافية تامة من أجل اتخاذ القرار وصحته وتوقيته المناسب وتأثيره على المجتمع المتعب بعد سنوات كانت صعبة جدا عليه. من جانبه يرى الأكاديمي الخبير الاقتصادي الدكتور محمد علي، أن ثمة ملامح واضحة تم إرساؤها على الأرض، على مستوى تحول سوريا من نظام اقتصادي مغلق إلى اقتصاد السوق الحر. ويعتبر أن تحرير الاستيراد واعتماد مبدأ المنافسة هو ألف باء مثل هذا التحول بكل ما حمله من تنوع في المنتجات والسلع وجودتها، وتنوع الأسعار بناء على هذه المعطيات. وجزم علي في حديثه من “المدن” بأن تحرير الاستيراد ستكون له انعكاسات بالغة الإيجابية ستظهر تدريجيًا على صعيد تحفيز الاستثمار والإنتاج المحلّي، ومن ثم المنافسة بالأسعار والجودة مع ماهو مستورد. سوق العملة والمصارف يشير د. علي إلى ملمحٍ أساس من ملامح التحول نحو أدبيات السوق الحر، وهو التغيرات التي طرأت على سعر صرف الليرة السورية. فمصرف سوريا المركزي أعلن منذ بداية التحرير أن استراتيجيته تعتمد آلية التعويم المدار، أي بناء على ظروف العرض والطلب ومن ثم التدخل عند تخطي سعر الصرف حدود غير حقيقية أو في حالات المضاربة، وذلك من أساسيات التحول إلى الاقتصاد الحر. وبالفعل قد تحسن سعر صرف الليرة السورية مع بدايات العام 2025. وإن كان سعر صرف الليرة قد انخفض نسبياً في الشهرين الأخيرين، فإن ذلك يبدو طبيعياً في ظروف الاقتصاد الحر، فالليرة تحتاج إلى تعافي منظومة الإنتاج المحلي لتحقق مكاسب أمام الدولار، وهذه الحيثية تبدو مثار اهتمام حكومي، وثمة مساع واضحة باتجاه الارتقاء بمنظومة الإنتاج المحلي ومعالجة العجز في الميزان التجاري السوري. والمهم في سياق التعاطي مع المسألة النقدية، إعلان الحكومة منذ البداية أنه لن يكون هناك تمويل بالعجز، والتمويل بالعجز كان السبب المباشر لحالة التضخم الذي حصل سابقاً. كما شرعت الحكومة بتحرير وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وهذا من الملامح المهمة للتحول. ورسمت الحكومة والمصرف المركزي رؤية لهيكلة المصارف العامة. ويعول اليوم على إعادة تفعيل نظام سويفت في سوريا وإعادة إدماجها في النظام المالي العالمي بشكل كامل خلال الفترة المقبلة.. طبعًا بعد إلغاء قانون قيصر. نحو الاندماج المفقود ويتفاءل علي بأن كل الإجراءات الجارية ستساعد سورية على الاندماج بالاقتصاد العالمي، في حال استمرت جهود الدعم الدولية، باتجاه إدراج سوريا في مجموعة العمل المالي وإزالتها من القوائم السوداء. والسماح بترميم الفجوة التقنية وإعادة توطين كل ما تحتاجه التنمية بمختلف مساراتها، وترميم كل ماله علاقة بالبنية التحتية بما في ذلك البنية التحتية الرقمية.. كل ذلك سيؤدي إلى تحسين بيئة الإنتاج السوري وتحسين الصادرات وتصحيح العجوزات في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، لكن هذا يحتاج إلى وقت فالاقتصادات لا تُبنى في ليلة وضحاها.. كل ما تم إنجازه في سياق تطبيقات إعلان التحول نحو اقتصاد السوق الحر في سوريا، والإجراءات التطبيقية التي تمت، تعني فيما تعنيه، وفقًا للخبير محمد فإن الانتاج سيبدأ مسيره التصاعدي مع تحرير الاقتصاد وتشجيع الاستثمار في كافة القطاعات، وهذا بالتأكيد سيؤدي إلى زيادة الطلب على القوة العاملة وامتصاص فائض سوق العمل.
المدن اللبنانية
|