سيرياستيبس :
كتب عدنان عبدالرزاق :
الفقر
والحاجة والخذلان، ولا شيء غير ذلك، يكسر القلب والخاطر ويحد من التطلعات،
كما لا أصعب وأوجع من السؤال، أو بصيغة أدق، ذلّ السؤال لمن يراك فقيراً
ومحتاجاً، وينتظر منك السؤال وطلب المساعدة، ليساعدك كما قلة، أو يفرض
شروطه ويتعذّر، مثل كثيرين.
من ذلك ربما، ولأن الدول تلكأت أو اشترطت، وهي ترى واقع سورية
عاجزة، كدولة، حتى عن دفع أجور الموظفين أو تأمين الخبز والمحروقات، لمعت
فكرة "أبشري سورية" من مدينة حمص، ولم تكن من النضوج والتبلور، كما آلت
إليه في إدلب قبل أيام، أو ما ستتحوّل إليه في حماة وغيرها من المدن
السورية، بعد ذلك.
فكرة جمع تبرعات من السوريين أنفسهم لبناء سوريتهم، أو لتلافي ما يمكن
تلافيه، لتأمين إكسير الحياة ومد الأسواق بالاحتياجات الضرورية، قبل أن
يكبر الحلم لإعادة الإعمار واقتلاع وتد آخر خيمة لاستعادة النازحين بيوتهم،
قبل فصل المطر والبرد.
بدأت الحكاية من "أربعاء حمص" في 13 أغسطس/آب الفائت، كباكورة لتحريض
السوريين وحضهم على البناء ومساعدة أهليهم، ففوجئ القائمون على المبادرة،
بأن جمعت وبليلة واحدة ومن دون تحضير أو عظيم توقعات، نحو 13 مليون دولار.
فتلقفت درعا، جنوبي سورية ومنطلق ثورتها، الفكرة، وأعلنت عن "أبشري حوران"
في 30 من الشهر ذاته، لتكبر الفكرة والمبالغ والحلم، وتجمع بليلة واحدة 36
مليون دولار ووعود بتبرعات ليصل المبلغ النهائي إلى نحو 44 مليون دولار،
ويتابع السوريون الحملات إلى دير الزور في 11 سبتمبر/أيلول الماضي، أكثر
المدن تهديماً وخراباً، فتجمع بليلة واحدة نحو 30 مليون دولار، قبل أن
تتغيّر طرق التحضير والدعوات ونضوج الفكرة وتحديد الأهداف، لنشاهد بحملة "ريفنا بيستاهل"
في 20 سبتمبر بريف دمشق، سقفاً جديداً من التبرعات تعدى 76 مليون دولار
وتحل المفاجأة الكبرى، في حملة "الوفاء لإدلب"، 26 سبتمبر، وتجمع 208
ملايين دولار.
ولأن الحملات أثمرت وعرف السوريون طرقاً تغنيهم عن السؤال والديون
الخارجية، وإسعاف دولتهم وحكومتهم، زاد التنافس بين المدن لتعلن درعا عن
حملة ثانية وكذا دير الزور، من دون أن يتعطل برنامج بقية المحافظات.
ولعل إعلان أهداف الحملات، خاصة بعد النضوج
والتبلور والوضوح، كما رأينا بمحافظة إدلب التي يراها السوريون "أمهم
الصغرى" نظراً لاستقبالها الثوار وعموم الهاربين من نظام الأسد، منذ
تحريرها عام 2015 حتى تحرير البلاد نهاية 2024، زاد من الحماسة ومحاولات
الوفاء ورد الجميل، للمدن وللشعب الصامد ولآل الشهداء والنازحين. فرأينا
التبرعات الأخيرة بمدينة إدلب، تنوعت بين رجال أعمال وجمعيات طبية وإنسانية
وصناديق محلية ودولية، ودخل أسلوب "المزاد العلني" كطريقة جديدة على
الحملة، بعد عرض بعض مقتنيات الشهداء أو قطع حليّ من الأطفال، لنرى مبالغ
كبيرة أوصلت التبرعات إلى ما زاد عن 200 مليون دولار.
قصارى القول: من يعرف حجم الخراب والتهديم بمحافظة إدلب والذي يحتاج لإعادة إعماره
نحو ثلاثة مليارات دولار، بحسب محافظ المدينة خلال إطلاق الفعالية، قد
يستصغر مبلغ الحملة في إعادة بناء وترميم نحو 250 ألف منزل مهدم ونحو 700
مدرسة مدمرة وخراب جراء القصف، نتج عنه 1.9 مليون متر مكعب من الأنقاض.
أو، وهو الأهم والغاية، عودة نحو مليون نازح ما يزالون حتى اليوم، في خيم
تفتقر لأبسط شروط العيش ومهددون سكانها بالمزيد، بعد موسم الأمطار وغمر
خيمهم بالمياه، كما شاهد العالم بأسره، خلال سني الثورة.
بيد أن الزراعة، هي ميزة وخصوصية إدلب الموصوفة "بالمدينة الخضراء" وإعادة
تأهيل هذا القطاع، هو أحد أهداف الحملة، إلى جانب إعادة النازحين لبيوتهم
وترميم القطاعات الطبية والتعليمية. فحجم الخراب الزراعي في المحافظة، زاد،
بعد حصر الأضرار رسمياً، عن مليون ونصف المليون شجرة زيتون و350 ألف شجرة
فستق حلبي ونحو 100 ألف شجرة تين.
ليكن تأهيل المدمر واستعادة دوران الإنتاج بالزراعة، غاية نهائية وهدفاً
مركباً، نظراً لما يمكن أن يستوعبه من أيد عاملة في بلد يعاني أكثر من 86%
من سكانه من البطالة، ورفد الأسواق بمنتجات، تحقق التوازن السلعي وتكسر
الأسعار، وتغني سورية عن الاستيراد واستنزاف الدولار.
نهاية القول: أغلب الظن أن التقييم العاطفي
والانفعالي، هو الغالب خلال التكلم عن حملات "أبشري سورية" ولعلّ ذلك مشروع
ومحق، فأن ترى السوريين، كل السوريين يهبون للأخذ بيد حكومتهم المفلسة،
فيتبرعون بأضعاف المساعدات
التي قدمتها الدول الصديقة. يحق لك الانفعال حتى لدرجة المبالغة، نظراً
لما ستحدثه الحملات من تأثير اقتصادي ومباشر، على الإعمار والتأهيل وتحسين
المعيشة، بعد إيواء النازحين وتأمين فرص عمل للعاطلين.
ولكن، بعد تأمّل وتروٍ، لا بد من التفكير المؤسسي والبحث عن سياسات تنمية
مستدامة وإعمار مدروس، متوازن ومتكامل وفق رؤية شاملة، بعيداً عن ذهنية
"الفزعات" أو العشوائية في الإعمار والتي ستعيق مشهد الإعمار إن خرجت عن
الخطط أو الرؤية العامة لما ستكون عليها سورية المستقبل.
وتبدأ الأسئلة المشروعة تتوثب على الشفاه، رغم ما تحدثه الحملات، من تكافل
ولحمة وطنية وتأمين موارد، ما كانت لتأتي بهذي السرعة واليسر لبلد مفلس،
كما سورية بعد نظام لأسد.
ربما أول الأسئلة وأحقها هو مدى مصداقية المتبرعين الذين تأخذهم الحماسة
أمام عدسات الكاميرات وأضواء المصورين والتلفزات، فيعدون بملايين الدولارات
من دون أي ضمانة لدفعها، ولعل في باكورة التجارب "أربعاء حمص" دليلاً بدأ
يكابده السوريون، إثر تنصل بعضهم أو إملائه لمصير تبرعه، جغرافياً
وتوظيفاً.
والسؤال الثاني الذي تبّدى بعد حملة الوفاء لإدلب، أن متبرعين سيقودون
بأنفسهم توظيف أموال تبرعاتهم، سواء بقرى وأعمال محددة، أو بمشاريع خدمية،
قد تنعكس عليهم وعلى أعمالهم، أكثر مما تتناسب مع الخطة العامة لإعمار
المحافظة أو يستفيد منها النازحون والعاطلون.
كما الوضوح والشفافية الحكومية، من الأسئلة المحقة بعد وصول التبرعات إلى "مبالغ هائلة" سواء أين وكيف تصرف، أو ما هي الأولويات في الصرف وكيف ستتم الرقابة وزمن التسليم؟
وكل ذلك، كي يستمر السوريون في حك جلدهم بأنفسهم وتستمر حملات، حققت بالفعل
ما عجزت أو تلكأت عنه، دول صديقة وشقيقة، كانت في الماضي تتذرع بالعقوبات
وبدأت اليوم، تفرض الشروط وتلمح إلى إملاءات.
العربي الجديد