سورية الجميلة RSS خدمة   Last Update:02/12/2025 | SYR: 14:50 | 02/12/2025
الأرشيف اتصل بنا التحرير
TopBanner_OGE

 عاصي سوريا...يستسلم لجفاف قاس بعد عصيان الأمطار والثلوج
02/12/2025      




سيرياستيبس 

نهر العاصي الذي يسير من "الجنوب إلى الشمال" معاكساً لكل أنهار المنطقة التي تجري من "الشمال إلى الجنوب"، لم يكن قادراً على عصيان قلة الأمطار والثلوج المغذية لمنابعه، بعدما أصابه الجفاف الكامل للمرة الأولى في تاريخه الممتد لقرون من الزمن.

ومع التغيرات المناخية التي أدت إلى انخفاض كبير في معدلات الهطول المطري والثلجي، خصوصاً في منطقة المنابع في لبنان (ينبع العاصي من منطقة البقاع)، ومع استنزاف الحوض المائي للنهر والزيادة السكانية والطلب المتزايد على المياه، إلى جانب وسائل الري البدائية واستهلاكها كميات كبيرة من المياه، جاء جفاف نهر العاصي قاسياً ومؤلماً بعدما عجزت الطبيعة عن تعويض مياهه.

وبينما دخلت "نواعير" حماة الشهيرة حالاً من الصمت الحزين والانتظار الطويل، ربما للمرة الأولى، وهي التي خضعت لعملية صيانة أخيراً، أملاً في عودة "أنينها" وهي تغرف من مياه العاصي إلى الأعلى في حال استثنائية وفريدة في جمالها، يبدو مشهد جفاف النهر مركباً ومتشعباً بل ومقلقاً، فآثار جفافه تمتد لتطال الزراعة والبيئة والسياحة وحتى حياة الناس واستقرارهم.

ما أسباب جفاف "العاصي"؟
الخبير المائي ووزير المياه السوري السابق نادر البني رأى، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن ظاهرة جفاف نهر العاصي طبيعية الحدوث، ففي عام 1959 حدثت وإن لم يكن بحجم الجفاف الحالي، وكتب التاريخ تتحدث عن ذلك وتتحدث أيضاً عن فيضانه وتجمده، إلا أن ظاهرة الجفاف ازدادت بسبب تبدلات المناخ في الفترة الأخيرة، يضاف إليها زيادة استثمار مياه النهر للأغراض المختلفة وتلوثه وسوء إدارته وتنظيم جريانه.

ولفت إلى أنه من المعروف أن مصادر مياه النهر تأتي من مجموعة ينابيع في لبنان، وبعض الفروع في سوريا مثل وادي ربيعة في حمص، وحوض "حرب نفسي" في حماة، وينابيع عين الطاقة وعين الزرقة في إدلب، ويحكم النهر اتفاقات دولية بين لبنان وسوريا حددت فيها حصة كل بلد، وهي معطلة بسبب الفوضى التي حصلت في الفترة الماضية، ويجب العودة إلى تطبيقها وتنظيم جريان النهر وتحسين إدارة مياهه.

وأشار إلى وجود مذكرة تفاهم بين سوريا وتركيا لبناء سد مشترك "سد الصداقة" وإنشاء محطة إنذار مبكر مشتركة لدرء الفيضان، ووضع حجر الأساس لبدء الإنشاء، لكنه يعتقد أنه متوقف بسبب الوضع السياسي في البلاد، مؤكداً أن بناء السد يخدم البلدين ويرفع من درجة تنظيم النهر.

وشدد على أن أي مصدر مائي يحتاج إلى إدارة صارمة لديمومته، وهذا الأمر لا نزال بعيدين عنه، معرباً عن أمله في ألا تتكرر ظاهرة انحباس الأمطار والجفاف.

ويرى الوزير السوري السابق أن التحدي الأساس بالنسبة إلى سوريا هو استهلاك قطاع الزراعة الذي يشكل أساس الأمن الغذائي، إذ يستهلك أكثر من 80 في المئة من الموارد المائية المستخدمة في سوريا، لافتاً إلى أن سهل الغاب وسهول إدلب وحمص التي يمر بها نهر "العاصي" من أهم المناطق الزراعية في البلاد.

وأضاف البني، أن الدراسات الدولية تشير إلى أن الشرق الأوسط سيتأثر سلباً جراء تغير المناخ، ومن المرجح أن تصبح هطولات الأمطار غير سهلة التنبؤ، سواء من حيث الشدة أو المدة.

وأشار إلى أن سوريا تواجه فترات جفاف متكررة ستكون لها عواقب شديدة على الموارد المائية والقطاعات الاقتصادية التي تستهلك المياه، وكان موسم الأمطار 2024 - 2025 لا يزيد على 30 في المئة من معدل متوسط الهطول المطري السنوي إلى الآن، مما ترك أثراً على الزراعة للموسم الحالي، وعلى مخزون السدود، وعلى مناسيب المياه الجوفية والينابيع.

الخبير المائي السوري أكد أن هذا الوضع المائي الاستثنائي يتطلب إعلان حالة الطوارئ بتطوير قواعد البيانات المناخية والاجتماعية والاقتصادية، والاعتماد على سياسات واستراتيجيات بإنشاء نظم مستدامة لتخفيف آثار الجفاف وإدارته، وإنشاء نظم مستدامة لتدابير التخفيف من آثار الجفاف.

وختم البني تصريحه بالقول، "لا يزال الوضع أقل من توقعاتي، وأقل مما نطمح إليه"، معرباً عن أمله في أن يتحقق الفرج بأقل الكلف".

هيكل نهر العاصي
تعد سوريا المستفيد الأهم بين الدول التي يمر فيها العاصي "لبنان وتركيا"، وتقع 17 في المئة من أراضيها المروية داخل حوض "العاصي"، ولا تستفيد سوريا فقط من المياه السطحية بل من المياه الجوفية أيضاً.

وتبلغ كمية المياه السنوية المستهلكة في سوريا نحو 15 مليار متر مكعب، يأتي 20 في المئة منها من نهر العاصي، وتستخدم في الحالات الطبيعية 2.230 مليون متر مكعب للري، و320 مليون متر مكعب للأغراض المنزلية، و270 مليون متر مكعب للأغراض الصناعية.

المتخصص الزراعي عبدالرحمن قرنفلة بين أن جفاف الأنهار يشكل مرحلة متقدمة وخطرة للتغيرات المناخية التي تسببت في تراجع كبير بمعدلات الهطول المطري والثلجي في المنطقة، وما ترتب على ذلك من ضغط على المياه الجوفية واستنزافها.


وأشار، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إلى أن جفاف نهر العاصي سيترك آثاراً سلبية عميقة، أبرزها على قطاع الزراعة الذي يستهلك كميات كبيرة من المياه، بخاصة إذا علمنا أن الزراعة في سوريا تستهلك ما بين 80 و90 في المئة من إجمالي موارد البلاد المائية، وهذه عتبة لم تعد مقبولة، والزراعة يتهددها نقص المياه.

وأكد أن ذلك يستدعي تصدي الحكومة لهذا الواقع الصعب سريعاً عبر اعتماد استراتيجية وطنية لإدارة المياه بما يمكنها من إنقاذ القطاع الزراعي، والتعامل مع موضوع الجفاف في حوض "العاصي" الذي يعد من المناطق الزراعية الرئيسة، عبر التوجه نحو الري الحديث إلزامياً، بمعنى أنه ليس لدينا خيار بديل عن ترشيد المياه، فالمياه لم تعد موجودة ليغدق منها من دون حساب.

وأوضح أن جفاف نهر العاصي بهذه الصورة المؤلمة سيؤثر في المناطق التي يمر بها، خصوصاً سهل الغاب الذي يعتمد اعتماداً كبيراً على النهر، معرباً عن أمله أن يكون موسم الأمطار والثلوج هذا العام جيداً بما يعيد للنهر جريانه.

ودعا المتخصص الزراعي السوري إلى ضرورة أن تتوجه وزارة الزراعة ومراكز البحوث الزراعية وحتى الجامعات إلى استنباط أنواع جديدة من المزروعات، بما فيها الأشجار المثمرة، تكون مقاومة للجفاف وتحتاج إلى كميات مياه أقل، مشدداً على ضرورة أن يجرى ذلك في محصول القمح على وجه التحديد، مع التوجه للاعتماد على سهل الغاب والمناطق المجاورة له سواء في إدلب أو حمص للتعويض عن خروج الجزيرة كمنتج للقمح.

ما أبرز التوقعات؟
المتخصص التنموي إبراهيم رسلان أكد أن جفاف العاصي سيترك آثاراً سلبية عميقة، فتأثر الزراعة وتراجعها سيجعلان الأمن الغذائي في خطر، وبطبيعة الحال يواجه 65 في المئة من السوريين فقدان أمنهم الغذائي وفقاً لتقارير أممية.

وأضاف لـ"اندبندنت عربية"، "أعتقد أن تراجعاً سيحصل في كميات المحاصيل الزراعية نتيجة تضررها من قلة توفر المياه وعدم هطول الأمطار، مما يجعل من تبني سياسات مقاومة للجفاف وترشيد وإدارة استهلاك المياه أمراً حتمياً".

وقال، إن مشهد جفاف نهر العاصي يأتي في سياق مشهد المياه في البلاد عموماً، التي تعاني تراجعاً في الهطول المطري وقلة في المياه، ولعل جفاف نهر العاصي، وانخفاض غزارة نبع الفيجة المغذي لدمشق، وانخفاض مستوى غزارة نهر السن في الساحل السوري من أوضح الصور المعبرة عن وجود أزمة مياه في سوريا، إضافة إلى الخطر الذي يتهدد البلاد نتيجة سيطرة القوات الإسرائيلية على جبل الشيخ، وتأثير ذلك في موضوع المياه.

وقال، "على الحكومة التحرك فوراً محلياً ودولياً، محلياً عبر وضع سياسات لإدارة قطاع المياه تعتمد على تبني أقصى درجات الترشيد في الاستهلاك لمختلف الحاجات الزراعية والصناعية والمنزلية، ودولياً عبر التنسيق مع الدول التي يمر فيها نهر العاصي والتواصل مع المنظمات الدولية لطلب المساعدة في مواجهة الأزمة"، مشيراً إلى أن سوريا كان لها تعاون مهم مع مؤسسة "جايكا" اليابانية في مجال إدارة المياه.

وأضاف، "بالعودة إلى تأثيرات جفاف نهر العاصي، فإن الآثار تمتد إلى البيئة نتيجة تراجع الحياة المائية في النهر وتراجع الغطاء النباتي وظهور برك للمياه الراكدة تنبعث منها الروائح، ولهذا آثار سلبية جداً على البيئة، إلى جانب تأثر تراجع المياه في حوض العاصي على استقرار الناس، حيث تبدو الهجرة خياراً لكثير من الأسر الريفية والتوجه نحو المدن وتشكيل مزيد من الضغط عليها، مما قد يؤثر في توفر المياه فيها، ودمشق خير مثال على ذلك".

وأكد أن جفاف "العاصي" يحمل أبعاداً ثقافية وسياحية وحتى مجتمعية، فكثيراً ما كان نهر "العاصي" مقصداً للناس والسياح والزائرين من الداخل والخارج، وشكلت "النواعير" حالة استثنائية على مستوى العالم، مؤكداً أن توقف "النواعير" عن الدوران يشكل خسارة تراثية وثقافية للسكان، مما يعني أن جفاف النهر يشكل ضياعاً لرمز حضاري ارتبط بوجدان المنطقة لقرون طويلة.

وختم المتخصص السوري حديثه بتأكيد ضرورة التحرك فوراً لمواجهة الوضع المائي في حوض "العاصي"، بخاصة أنه ينذر بمشكلات يمكن أن تصل إلى حد الكارثة.

الاستخدام الصناعي وراء تلوث "العاصي"
أسهمت عوامل عدة في تلوث النهر، يأتي في مقدمها الاستخدامات الصناعية، إذ تعادل كمية المياه التي يتم ضخها من نهر العاصي للاستخدام الصناعي في المدن الصناعية في كل من حماة وحمص، إلى جانب المناطق القريبة منهما، نصف إجمالي حاجات سوريا من المياه.

وتعد مصفاة تكرير النفط التي بنيت على بحيرة قطينة عام 1957، ومصانع إنتاج الأسمدة التي بنيت غرب البحيرة عام 1976، وعديد من مصانع الزيتون قرب الحدود التركية، من العوامل الرئيسة المساهمة في تلوث الحوض.

وتعد النفايات غير المعالجة من مصانع الزيتون، على وجه الخصوص، السبب في نفوق الأسماك، كما تأثرت جودة المياه بصورة أكبر بسبب مياه الصرف الزراعي وعدم صلاحية البنية التحتية في مدينة حمص.

وتبلغ القدرة الإجمالية للسدود السورية على نهر العاصي نحو 736 مليون متر مكعب، أكبر هذه السدود هو سد الرستن الذي تراجعت المياه فيه بصورة كبيرة حالياً، وسد بحيرة قطينة وسد "محردة" وسد "زيزون" وسد "قسطون".

وفي فبراير (شباط) من عام 2011، وقعت كل من سوريا وتركيا مذكرة تفاهم لبناء سد "الصداقة المشترك"، ونظر إلى مذكرة التفاهم آنذاك باعتبارها فرصة لزيادة التعاون في مجال إدارة المياه العابرة للحدود في المنطقة، إذ كانت هناك مفاوضات لزيادة حصة سوريا من نهر الفرات إلى جانب حصولها على حصتها من نهر دجلة.

لكن اندلاع الثورة في مارس (آذار) من العام نفسه أوقف التعاون، بل وجف نهر العاصي، على أمل أن تهطل الأمطار والثلوج وتعيد الحياة إلى النهر الذي تمرد على الجغرافيا، وتتمرد عليه الطبيعة اليوم.

اندبندنت عربية 


شارك بالتعليق :

الاسم : 
التعليق:

طباعة هذا المقال طباعة هذا المقال طباعة هذا المقال أرسل إلى صديق