القاهرة | الجدّ كان عمدة صعيدي، الأب لواء شرطة. لذلك وبالتبعيّة، التحق الابن الأكبر بكلية الشرطة. وبحسب كلماته الخاصة، كان يمكن أن يصبح «ضابطاً لا قبله ولا بعده». ولكن أثناء دراسته في كلية الشرطة، يلتقي بضابط آخر صار فناناً في ما بعد، يترك تأثيراً هائلاً بداخله: إنّه صلاح ذو الفقار. أما هو، ابن اللواء ابن العمدة، فسوف يصبح فناناً لا قبله ولا بعده في الكوميديا والهزل.

لم يهتم طالب الشرطة سمير غانم، بالعلوم التي يدرسها من قوانين ودستور، ولم يتفوق في الألعاب الرياضية، ولكنه برع في شيء واحد: تقليد الأساتذة، لتكون النتيجة رسوبه لعامين متتاليين وفصله نهائياً من الكلية ليلتحق بعدها بكلية الزراعة (جامعة الإسكندرية) ومن هنا يبدأ الطريق.

حتى عندما كان يجسّد شخصيّات شرّيرة، كان يضفي عليها الروح الفكاهيّة المرحة

في الجامعة يستكمل، بحرية أكبر، ممارسة موهبته: تقليد الأساتذة. بتعبيره «كانت مسخرة». نجاحه في ذلك دفعه إلى تأسيس فرقة صغيرة مكونة منه ومن صديقين آخرين أطلقا عليها «إخوان غانم»، على غرار «إخوان ماركس». لكنّ الصديقين لم يهتما بالفن، أحدهما كان يعتني بالدراسة والثاني بالذهاب إلى الكنيسة... إلى أن جاءت المحطة التالية والأهم. منها، انطلق قطار موهبته واحترافه للفن، رحلة «شباب الجامعات» إلى سوريا، التي التقى فيها برفيق الدرب جورج سيدهم طالب كلية الزراعة أيضاً، لكن في جامعة عين شمس في محافظة القاهرة. يتوافق الشابان ويتخذان خطواتهما، ويقرران العمل معاً في تقديم مونولوجات في أحد كازينوات الاسكندرية في إجازة الصيف. وبعدها يلتحق بهما طالب كلية الآداب الضيف أحمد، ليشكّل الثلاثي فريقاً، حقق في ما بعد شأناً كبيراً في الإذاعة، والسينما، والتلفزيون والمسرح المصري.

الثلاثي
بالمصادفة، يلتقي المخرج التلفزيوني محمد سالم بسمير وجورج ويخبرهما: «انتم ممتازون جداً، لكن لازم تعملوا حاجة جديدة تليق عليكم، عندي برنامج اسمه «أضواء المسرح»»، فيقدمان اسكتش «دكتور الحقني»، ثم ينضم إليهما «الضيف أحمد» ويشكلون «ثلاثي أضواء المسرح»، ويحققون نجاحاً وشهرة من خلال اسكتش «كوتوموتو». ويصبح بعدها الثلاثي فرقة لم يضاهِ نجاحها أي فريق فني آخر ظهر في مصر على مدار أكثر من نصف قرن. يبدأ احترافهم الفن مع بداية الستينيات، من خلال ظهورهم في الفوازير الرمضانية وعدد من الأفلام الرومانسية والكوميدية الخفيفة، التي ربما لم يكن لظهورهم في معظمها أي ضرورة فنية، ولكنه ــــ حتماً ــــ كان له ضرورة تجارية لضمان نجاح الفيلم وإضافة النكهة الفكاهية و«الفرفشة». وكان بعض المنتجين يضعون صورة الثلاثي على ملصقات تلك الأفلام، بالرغم من أدوارهم القصيرة فيها، لضمان جذب الجمهور، مثل «المغامرون الثلاثة»، و«آخر جنان» (1965)، و«30 يوم في السجن» (1966)، و«شنطة حمزة»، و«شباب مجنون جداً»، و«شاطئ المرح»، و«بنت شقية» (1967). كانت الاسكتشات في تلك الأفلام تنجح نجاحاً مدوياً. وفي بعض الأحيان، كان الناس ينسون قصة الفيلم ومضمونه ويتذكرون «اسكتشات الثلاثي». والطريف أن نجاحها مستمر وبعضها الآن ضمن الأكثر مشاهدة على موقع يوتيوب مثل «كيوبيد للبيع»، «شفت الحليوة»، «جمبري مشوي». وقد لحن غانم بنفسه معظم هذه الاسكتشات.
رغم أن نجاح الثلاثي جاء منذ بداية الستينيات، إلا أن بعض النقاد اعتبروا أن حضورهم الطاغي جاء نتيجة زجّ الدولة بهم في مختلف الوسائط الترفيهية كي يسهموا في خروج الشعب المصري من حالة الحزن والغضب التي أصابته بعد هزيمة 1967.
ولكن الواقع يؤكد أن نجاحهم سبق ذلك واستمر قبل وأثناء وبعد 1967، ولم يحدث لهم أي تراجع أو خفوت إلا بوفاة الضلع الثالث لهم، الضيف أحمد عام 1970.
استمرّ في تطبيق فلسفته «الضحك للضحك» لا جدية، ولا مبالغات درامية. فلسفة احترمته بفضلها الأجيال


الثنائي..
يحكي سمير غانم للناقد طارق الشناوي في كتاب «سمير غانم... إكسير السعادة» الصادر عن «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» 2017 قائلاً: «بعد صدمتنا بفراق الضيف، كنا نحضر للفوازير ولم نقبل بأن نأتي بأحد غيره معنا، بالرغم من أنه جاء إلى المسرح 500 ضيف كلهم شبهه لكن الروح لا... مش موجودة».
استمر سمير وجورج في تقديم عدد من المسرحيات الناجحة؛ أهمها «موسيقى في الحي الشرقي»، و«المتزوجون»، و«أهلاً يا دكتور». وبسبب بعض الخلافات الشخصية، انفصل الثنائي واستكمل كل منهما المسيرة وحده.

فاكهة السينما
لم يكن العمل بمفرده يمثل صعوبة لسمير غانم، الذي كان قد استقل وحقق ظهوراً كبيراً في السينما في أدوار كلها كوميدية، هو المعروف بأنه لم يمثل دوراً أو حتى مشهداً جاداً في حياته. حتى عندما كان يجسد شخصيات شريرة، كان يضفي عليها الروح الفكاهية المرحة. ومهما كانت طبيعة الفيلم ومهما بلغ قمة الميلودرامية والجدية، إلا أنّ سمير كان دائماً قادراً على إضفاء البهجة والضحكة، وإن كان بقية الأبطال يعانون من مدى خبث أو فساد الشخصية التي يؤديها. قدم سمير غانم في عشر سنوات من 1970 حتى 1980 ما يقرب من 60 فيلماً. يظهر تارة كضيف شرف وطوراً في أدوار صغيرة وإن لم يخلُ بعضها من أدوار كبيرة ومتميزة.
ولكن في بداية من الثمانينيات، بدأ يلعب بطولة أو يشارك في بطولة عدد هائل من الأفلام الكوميدية، معظمها من النوع الذي أطلق عليه «أفلام المقاولات»، أي قليلة الميزانية وضعيفة المحتوى الدرامي وسيئة التنفيذ والصنع. كان الهدف الأساسي من صنعها ليس العرض في دار السينما ولكن تعبئتها على شرائط فيديو لتوزيعها في دول الخليج، حيث كانت أجهزة الفيديو بدعة منزلية مبهرة.
الطريف أن بعض الأفلام الكوميدية الخفيفة التي شارك سمير غانم في بطولتها أثبتت كفاءتها على مدار السنين وأصبحت تعد الآن من الكلاسيكيات الكوميدية التي تضحك أجيالاً وراء أجيال مثل «يا رب ولد»، «البعض يذهب للمأذون مرتين»، «الجواز للجدعان» و«البنات عايزة ايه». في كل تلك الأعمال وغيرها، استمرّ سمير غانم في تطبيق فلسفته «الضحك للضحك» لا جدية، ولا مبالغات درامية. فلسفة احترمته بفضلها الأجيال، فأصبح أيقونة للضحك الخالص من أي أغراض.


سمير ووحيد
يأتي عام 1985، بمفاجأة مدوية ومن العيار الثقيل. يقف سمير غانم على المسرح وحيداً للمرة الأولى منذ أن بدأ مشواره الفني، وللمرة الأولى أيضاً، وربما الوحيدة، يتبنى شيئاً آخر بجانب الكوميديا، من خلال نص أحد أكثر الكتّاب شراسة وجرأة سياسية. المسرحية كانت بعنوان «جحا يحكم المدينة» والكاتب هو الراحل وحيد حامد، والنص يدور حول جحا وحماره اللذين يخرجان من تحت الأرض أثناء حفر مترو الأنفاق، ويجتمع المسؤولون في محاولة لتقرير مصيرهما. ويجتمع المسؤولون في الواقع للتربص بالعرض وأصحابه حتى لا يخترقوا المحظور ويتجاوزوا الحدود. وتقف الرقابة للمسرحية وأحداثها وإسقاطاتها بالمرصاد. حرصت رئيسة الرقابة آنذاك نعيمة حمدي، الملقبة بـ«المرأة الحديدية»، على الحضور يومياً للعرض لمراقبة ما يفعله البطل، وما إذا كان هناك خروج عن النص الذي وافقت عليه الرقابة أو لا. الغريب أنها كما يحكي سمير غانم في الكتاب السالف الذكر، «كانت تستمتع وتضحك.. يومياً».
خلال الثمانينيات والتسعينيات، حقق سمير غانم حضوراً كبيراً في كل الوسائط: مسرحياته تعرض باستمرار، ظهوره السينمائي والتلفزيوني لا يتوقف، تقديمه للفوازير وابتكاره لشخصية «فطوطة» الشهيرة، يجعلونه أيقونة للكوميديا ومن ثوابت رمضان والكوميديا عند العائلة المصرية. وبجانب النجاح الهائل للفوازير، قدم سمير غانم بعض المسلسلات التي لا تزال تعرض حتى الآن وتحقق نسب مشاهدة عالية مثل «حكاية ميزو والكابتن جودة». كذلك حقق نجاحات كبيرة على خشبة المسرح لسنين طويلة بأعمال رسخت في الأذهان مثل «فارس وبني خيبان»، «أخويا هايص وأنا لايص» و«بهلول في استنبول».

آل غانم
بعد فترة توقف استمرت سنوات، عاد سمير غانم إلى الساحة خلال العقد الأخير من خلال الأعمال التي تشارك في بطولتها «أسرته الصغيرة»، التي تعتبر من أشهر وأحبّ العائلات الفنية، ليس فقط للنجاح المنفرد لكل فرد منها، الزوجة دلال عبد العزيز والابنتين دنيا وإيمي، لكن أيضاً لما تمثله تلك العائلة من أواصر المحبة والترابط، فدائماً ما يظهرون معاً، حتى كمجرد ضيوف شرف يساندون أحدهم. سمير غانم لديه تناغم رائع مع ابنته دنيا ويحقق الاثنان الرقم الأعلى في مشاركتهما معاً على الشاشة. الأب الذي يقف أمام ابنته التي صارت نجمة كبيرة، يدعمها ويدعم الأعمال التي تؤدي بطولتها بالـ«قفشة والإفيه» ويقدمان معاً مشاهد شديدة الطرافة تتجلى في مسلسلات «الكبير أوي»، «لهفة»، و«في اللالا لاند» و«بدل الحدوتة تلاتة»، ويدعم أيضاً ابنته الصغرى شبيهته شكلاً وروحاً إيمي في مسلسلات مثل «عزمي وأشجان» و«سوبر ميرو».
على مدى أكثر من 58 عاماً منذ ظهوره الأول على الشاشة، تمكن سمير غانم من أن يمنح الجمهور شعوراً واحداً وخالصاً، هو: السعادة والضحك. موجود دائماً، لا يعزّ نفسه عن الظهور، ولا يبخل بطاقته، مهما بلغ من العمر والإجهاد. هو يبدو كأنه يتنفّس فناً.