أسهمت
العودة الطوعية لعشرات الآلاف من السوريين إلى بلادهم خلال العام الأخير
في إعادة تشكيل مشهد العقارات في تركيا، لا سيما في الولايات الجنوبية التي
شكلت الحاضنة الكبرى للاجئين طوال سنوات الحرب. ورغم أن التأثير العام لم
يصل إلى حد إحداث انعطاف حادّ في بنية السوق، إلا أن تداعياته بدت واضحة في
تغير مستويات الإيجارات، وارتفاع حجم المعروض
من المنازل، وظهور مناطق سجلت انخفاضات لافتة بعد سنوات من الضغط السكني.
وفي المقابل، حافظت المدن الكبرى، مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير، على تماسكها
النسبي، مع تأثيرات محدودة تركزت في أحياء كانت تضم كثافة سكانية سورية
مرتفعة. كذلك امتدّ أثر العودة إلى سوق العمل، إذ أدى خروج أعداد كبيرة من
العمالة السورية إلى فراغ واضح في بعض القطاعات الحيوية، خصوصاً في
الصناعات الصغيرة والزراعة والبناء.
أقل من المتوقع
لم تكن عودة السوريين، كما التوقعات أو
التصريحات التركية الرسمية التي ألمحت إلى مليون سوري خلال العام الأول من
التحرير، إذ، بعد نحو عام على سقوط نظام بشار الأسد وتحرير سورية، لم يزد
عدد العائدين من تركيا عن 557.7 ألف سوري، وفق آخر تصريح لوزير الداخلية
التركي علي يرلي قايا أخيراً، خلال مناقشة الموازنة العامة لعام
2026، مبيّناً أنّ عدد اللاجئين السوريين في تركيا من حملة بطاقة الحماية
المؤقتة "الكيملك" يبلغ اليوم نحو مليونين و381 ألفاً و326، وأنّ عدد
السوريين العائدين إلى بلدهم منذ عام 2016، بلغوا مليوناً و297 ألفاً و705،
وفي العام الماضي، بعد تحرير سورية، تسارعت عمليات العودة، حيث عاد 557
ألفاً و702 شخص إلى سورية.
وتتوزّع أسباب عدم العودة، كما التوقعات على الأقل، لارتباط بعض الأسر السورية بدراسة
أولادها بتركيا أو لتوفر عمل بدخل مرتفع، أو، لعدم توفر فرص عمل بسورية
وتباطؤ عملية الإعمار، إذ معظم الذين لم يعودوا، لا يمتلكون منازل بسورية
أو بيوتهم مهدمة وغير جاهزة للسكن.
ولايات الجنوب
وتأتي ولايات جنوبي تركيا (غازي عنتاب،
وكلس، وأورفا وهاتاي) في مقدمة المدن التي استقبلت اللاجئين السوريين،
نظراً إلى قربها من الحدود وإجادة بعض السكان اللغة العربية، فضلاً عن رخص
المعيشة وإيجار العقارات، وزاد عدد اللاجئين السوريين في تلك الولايات عن
1.6 مليون سوري، قبل البدء بالعودة الطوعية التي تشجّع عليها تركيا، حتى
قبل تحرير سورية. وزاد عدد اللاجئين في غازي عنتاب على سبيل المثال، عام
2022، عن 500 ألف سوري، لكن العدد اليوم، بحسب تصريح محافظ الولاية، كمال
جبر، أخيراً، لا يزيد عن 335 ألف سوري، مؤكداً خلال تصريحات عودة نحو 80
ألف لاجئ إلى بلادهم مع تحسن الأوضاع واستقرار الوضع في سورية. لذا تظهر
آثار عودة السوريين على أسعار وإيجار العقارات، بولايات الجنوب، كما تجلّت
واضحة على خسارة المنشآت الصناعية والأعمال الزراعية العمالة، أكثر مما هي
عليه بالأناضول أو الشمال، عدا ولايات إسطنبول وأنقرة وإزمير.
ويقول اللاجئ العامل بقطاع الجلديات، عمار
الطحان، لـ"العربي الجديد"، إن كلفة إيجار المنازل بريف غازي عنتاب تراجعت
بنحو 30% خلال العام الأخير بعد عودة السوريين، خاصة في المناطق المغلقة
"المحظور على السوريين سكنها"، مشيراً إلى أن إيجار منزله يبلغ حالياً نحو 8
آلاف ليرة، وربما لن يهدده صاحب المنزل برفع الإيجار أو الإخلاء، كما في
كلّ عام سابق. وحول أسعار المنازل وأثر عودة السوريين على العرض، يضيف
الطحان أن أعداد المنازل الفارغة في تزايد بعد عودة السوريين، لكن الأسعار
لم تزل مرتفعة قياساً بقدرة الأتراك الشرائية، لافتاً إلى أن معظم المنازل
التي كان يقطنها السوريون "قديمة"، لذا فإن الطلب عليها محدود.
ومن مدينة غازي عنتاب، يكشف لنا السوري
الحاصل على الجنسية التركية محمد الحسين أن عودة السوريين أثرت بشكل محدود،
لأن قطاع العقارات يعاني من ركود، وبات أصحاب المنازل يزيدون لقاء الإيجار
وفق النسبة السنوية الرسمية، في حين أنه في الأعوام السابقة كانت الزيادة
كيفية وبشكل مرتفع. مؤكداً أن أسعار الإيجار لم تزل مرتفعة في مناطق
ابراهيملي وساري كونغلوك، ولا يقل الإيجار فيها عن 25 ألف ليرة، وفي أطراف
المدينة تتراوح بين 15 و20 ألف ليرة (كان أعلى من ذلك بنحو 30% العام
الماضي). وعن أسعار المنازل يقول الحسين؛ العامل في منظمة إغاثية دولية
لـ"العربي الجيد" إن المنطقة ومساحة المنزل تلعبان دوراً في سعره، فمثلاً
في حي "غوني كينت" الراقي لا يقل سعر المنزل عن ثلاثة ملايين ليرة (نحو
71.5 ألف دولار)، مؤكداً أن العرض ضعف الطلب، لكن المفاجئ أن الأسعار لا
تهبط.
الأكثر أثراً
ربما تبدل خريطة العقارات بولاية كلس، كان
الأكثر وضوحا نظرا لوجود نحو 130 ألف سوري، قبل بدء العودة الطوعية ما
يشكلون أكثر من 26% من نسبة سكان الولاية، ما كسر أسعار العقارات والإيجار
بعد عودة اللاجئين. ويصف اللاجئ السوري إبراهيم العوض أن كلس من أرخص
ولايات تركيا من حيث كلفة السكن اليوم، إذ لا يزيد إيجار المنزل اليوم عن 7
آلاف ليرة، ويوجد بأقل من ذلك، كما أثرت عودة السوريين برأيه، على أسعار
العقارات الجديدة التي بُني معظمها بعد لجوء السوريين، إذ لا يزيد سعر
المنزل الجديد والجيد عن 1.5 مليون ليرة (نحو 35.7 ألف دولار).
ويضيف العوض المتخصص في تجهيز العقارات أن
الأحياء التي كان يقطنها السوريون "بيشيوزفلر"، و"قراطاش" و"أحمد راسم" هي
الأقل سعراً اليوم، إيجاراً وشراء، وتوجد منازل فارغة كثيرة. لافتاً خلال
حديثه مع "العربي الجديد" إلى أن الأسعار لم تستقر بعد والقطاع يعاني من
عرض زائد وقلة إقبال على الشراء، وتابع: "توجد مساكن جديدة مسعرة بنحو
ثلاثة ملايين ليرة في حي يني بشيلفر، ولكن لا أحد يشتريها". ويعاني
الأتراك، بشكل عام، من عدم القدرة على شراء منازل، إذ تشير بيانات معهد
الإحصاء التركي إلى أن نسبة تملك المنازل انخفضت إلى 55.8% في 2024، مع
توقعات باستقرارها حول 56% خلال 2025، وهو أدنى مستوى منذ 18 عاماً. كذلك
زادت نسبة المستأجرين، خصوصاً في الفئات ذات الدخل المنخفض، إذ ارتفعت من
24.5% إلى 36.7%. كما انخفضت نسبة التملك في الفئات متوسطة الدخل، ما يشير
إلى تراجع القدرة على امتلاك مسكن.
إسطنبول الفيصل
يمكن اعتبار ولاية إسطنبول المثال الأكثر
واقعية لتأثير السوريين، نظراً للعدد الكبير (نحو 500 ألف لاجئ)، وهي برأي
منسق المبيعات في شركة "نظام العقارية" أحمد ناعس تأثرت بشكل كبير في بعض
الأحياء، مثل اسينيورت، وباغجلار والفاتح، في حين لم تنعكس عودة السوريين
على أسعار العقارات في معظم الأحياء. ويضيف ناعس لـ"العربي الجديد" أن معظم
السوريين كانوا يسكنون في أبنية مستقلّة وقديمة نوعاً ما، الأمر الذي حدّ
من تأثير عودتهم على القطاع، لافتاً إلى أنّ "أسعار الإيجار تراجعت بنحو
15%"، ولكن بالمناطق المفتوحة لإيجار السوريين فقط، لأن معظم أحياء إسطنبول
مغلقة ومحظور على السوريين وغيرهم من اللاجئين السكن فيها.
وحول تراجع أسعار العقارات بعد عودة
السوريين، يشير ناعس إلى أن قلة من السوريين العائدين يمتلكون منازل، إذ لا
يحقّ امتلاك منزل إلا للحاصل على الجنسية، لذا لم تتأثر أسعار المنازل
كثيراً، إلا أن البيوت الفارغة في إسطنبول كثيرة والأسعار لم تزل مرتفعة
رغم تراجع الطلب، لا يمكن قياس عقارات إسطنبول وفق مبدأ العرض والطلب. ومن
حي الفاتح بإسطنبول، يقول التركي ايمري باشران لـ"العربي الجديد" إن الأثر
الأوضح بعد عودة السوريين هي المحال الفارغة، ففي حي فوزي باشا أو منطقة
الأمنيات، ترى عشرات، بل مئات المحال الفارغة التي كان يشغلها السوريون،
لكن أسعار الإيجار والمبيع لم تتأثر كثيراً، لأن الفاتح مغلقة أمام
اللاجئين منذ سنوات، وهي حي سياحي وقديم والطلب فيها كبير.
وهو ما رمى إليه صاحب مكتب "عدالة إملاك"
لبيع العقارات وتأجيرها في منطقة ردامان بحي الفاتح حسن أوزون، مؤكداً أن
أثر عودة السوريين واضح في بعض الأحياء، لكنه طفيف جداً في الأحياء الراقية
أو القسم الآسيوي من إسطنبول، مكرراً أن فراغ المحال التجارية وتراجع حركة
السوق بالفاتح تعاظما بعد عودة السوريين. وعن هوية المشتري للعقارات التي
كان يمتلكها السوريون، يقول أوزون لـ"العربي الجديد" إنها تطرح عبر المكاتب
أو على وسائل التواصل وخدمات الإنترنت "صاحبندان" وعادة يكون المشتري
تركياً أو ربما من العرب المقيمين في تركيا.
نسبة وتناسب
يقول المحلل التركي علاء الدين شنكولر إن
نسبة السوريين بتركيا لا تزيد عن 2.5%، ومن عاد منهم لم يتجازوا عددهم طيلة
العام 550 ألف سوري، لذا آثار عودتهم على قطاع العقارات لا بد من أن تنطلق
من هذه النسب. كما أن المهم في الموضوع أن السوريين، في الغالب، كانوا
يسكنون في أحياء محددة وأبنية مستقلة وليست مجمعات سكنية، ما يعني أن تلك
المنازل الفارغة بعد عودة السوريين لا تستهوي الشركات العقارية ولا
المستثمرين الأتراك أو الأجانب، إيجاراً وشراء، بل تزيد من العرض والبيوت
الفارغة والتي لا تكفي، كماً ونوعاً، لكسر السعر.
ويشير شنكولر إلى أن قطاع العقارات في تركيا لا يزال يعاني من حركة محدودة
إن لم نقل جموداً، فالعرض أضعاف الطلب واللافت عدم تراجع الأسعار أو مواد
البناء التي زادت بأكثر من 50% هذا العام.
ويضيف شنكولر لـ"العربي الجديد" أن الأثر
يتجلّى في مدن جنوبي تركيا، والتي توسّعت عقارياً بعد قدوم السوريين، وهي
عنتاب، وكلس، وهاتاي، وأورفا والتي يظهر الأثر كبيراً فيها على سعر الإيجار
وحتى المبيع والشراء، لكن في ولايات كبيرة، مثل إزمير وأنقرة وحتى إسطنبول
التي يوجد فيها سوريون كثيرون، فالأثر محدود جداً. ويلفت المحلل التركي
إلى أن أثر عودة السوريين ظهرت على سوق العمل أضعاف العقارات، إذ نقصت
العمالة، خاصة في قطاع الصناعات الصغيرة والزراعة والبناء، الأمر الذي وضع
الشركات التركية أمام تحديات رفع أجور العمالة التركية أو التفكير في
استقدام عمالة خارجية، وهذا سيزيد من التكاليف التشغيلية وينعكس على
الأسعار.
العربي الجديد