ها قد ظهر مجدداً من يتحدّث باسم اللبنانيين. المصارف مارست هذا المكر أولاً، ثم تلتها مجموعة أشخاص وجمعيات يصنّفون أنفسهم نخباً عاملة في الشؤون القانونية والمالية والتجارية. يظنّون أن تحريض صندوق النقد الدولي على رفع سقف شروطه وفرض وصايته على لبنان مقابل إقراضه الأموال يتيح القيام بدور ما. المريب في الأمر أن مطلبهم بضبط الحدود مع سوريا يتزامن مع بدء تطبيق قانون «قيصر». لا ينقص الصندوقَ تحريضٌ على لبنان، لكن المسألة تكمن في محاولة فرض أجندة سياسية تتبنّى وصول بعضهم إلى مواقع قيادية على ظهر الأزمة
في 27 أيار الماضي، أرسلت مجموعة من اللبنانيين كتاباً إلى المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، تحرّضه على فرض شروط محدّدة ومسبقة لإقراض الدولة اللبنانية الأموال التي تطلبها. بمجمله، يقضي هذا الكتاب، التحريضي، بتوسيع وصاية الصندوق على لبنان لتشمل القضاء أو بعض النواحي المتصلة بتطبيق القانون، وضبط الحدود مع سوريا، وملف الكهرباء، وصولاً إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. ببساطة، ما تطلبه هذه المجموعة هو التخلّي عن أعمال وقرارات سيادية كمقدمة لمطالب أخرى.
الكتاب موقّع من 18 شخصاً و17 جمعية، بعضهم وزراء سابقون مثل كميل أبو سليمان، وناصر السعيدي، والنائب السابق غسان مخيبر. أما غالبيتهم، فيعملون في القطاع المالي، أو كانوا يعملون فيه ويعدّون من كبار المودعين ومن كبار أصحاب الرساميل. وهناك مشاركة قطاعية ذات بعد سياسي، مثل كمال شحادة الذي كان يرأس الهيئة المنظمة للاتصالات أيام الرئيس فؤاد السنيورة، ونبيل فهد نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان، وهناك من يعمل في مجال المحاماة، أو يمثّلون جهات بهذا المعنى مثل الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين. لكن المفاجأة تمثلت في وجود اثنين من أبرز رموز وضع اليد على أراضي الوسط التجاري؛ الأول هو الرئيس السابق لنقابة المقاولين فؤاد الخازن الذي خرج من النقابة منذ سنوات بسبب وضعه الصحي، والثاني هو غالب محمصاني أحد أبرز محامي «سوليدير».
وبحسب المعطيات المتداولة، فإن الوزير السابق كميل أبو سليمان حاول انتزاع توقيع جمعية «لايف» على هذا الكتاب انطلاقاً من أنه هو شخصياً عضو فيها إلى جانب السعيدي وآخرين، إلا أن قيادة الجمعية ميّزت بين عملها الداخلي والانتقادات التي توجّهها للداخل، وبين خطوة كهذه تنطوي على عمل تحريضي يتضمن وصاية صندوق النقد على لبنان، علماً بأن هذه الجمعية تمثّل المديرين التنفيذيين اللبنانيين الذين يعملون في دول عدّة.
في المجمل، يزعم موقعو الكتاب أنهم يمثّلون المجتمع المدني، بينما هم أشخاص لهم هويتهم الطبقية كأصحاب رساميل، أو يمثّلون طرفاً سياسياً غير محايد بالمطلق. فهم ينتمون أيضاً إلى جمعيات أو منظمات أو أسّسوا جمعيات وموّلوها. يعتقدون أنه يجب انتهاز فرصة الأزمة لتحقيق أهداف سياسية تتزامن مع الضغوط السياسية، وهو ما يتيح لهم انتزاع مكاسب رأسمالية تتعلق بمصالح محدّدة، أو مكاسب إدارية ــــ سياسية لحجز مقعد قيادي لهم في مواقع قيادية. الغطاء المناسب لهم هو التمويه بحجّة تمثيلهم للمجتمع المدني بعيداً عن الاعتبارات الحزبية التي باتت تفرضها الأحزاب على ممثليها في الوزارة وفي الإدارات العامة. فمن أبرز الجمعيات الموقعة: «كلنا إرادة» و«العسكريون المتقاعدون»، و«تجمع رجال الأعمال» وسواهم من رجال الأعمال وأصحاب الرساميل وأصحاب الشركات الكبيرة والودائع الكبرى الذين أسّسوا أو شاركوا أو موّلوا تأسيس جمعيات بـ«ألوان الثورة» مثل «كلّن يعني كلّن»، «خبز وملح» «رئيس نقابة العمال في قطاع النفط مارون الخولي»، «لبنان يقلب الطاولة»، «الصوت الثالث»…
في كتابهم، ينصح الموقّعون صندوق النقد الدولي بإدخال أولويات متصلة بمفاوضاته مع لبنان، منها مجموعة من مشاريع القوانين التي يزعمون أنها تستهدف استقلالية القضاء لأنها مشروطة بـ«تبنّي مشاريع قوانين ومراسيم لإعادة الثقة بالمؤسسات». لكن مطلبهم مرتبط بشروط؛ أبرزها قانون للادعاء العام يتعلق بالعقود مع القطاع العام التي غالباً ما يعتريها الفساد والنقص في الشفافية وإساءة استعمال السلطة.
يزعم موقّعو الكتاب تمثيل المجتمع المدني، بينما هم أصحاب رساميل بهويّة سياسية واضحة
ويطالبون أيضاً في هذا المجال بقانون للجمارك، وبأن تعطى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد المنشأة بالقانون 175 في أيار 2020، صلاحيات «منح الحصانة الكاملة أو الجزئية والإقرار بالذنب، من أجل تشجيع المحاكمات والتسويات». كذلك حصولها على صلاحيات «التواصل مع القضاء الأجنبي»، و«رفع السرية المصرفية» و«قبول الهبات»… كيف يكافح الفساد عرابو وضع اليد على سوليدير والمستفيدون من الهندسات المالية والفوائد المرتفعة على مدى السنوات الماضية؟
في ملف الكهرباء، وقَعَ الموقّعون في خطأ فادح عندما اعتبروا أن القطاع يسبب عجزاً سنوياً بقيمة مليارَي دولار، بينما الواقع أن هذه الأموال هي عبارة عن دعم تعرفة الكهرباء التي استفاد الأثرياء منها أكثر من الفقراء، وما أكثرهم في اللائحة الموقعة. طبعاً، هم يستعملون عبارات ومفردات متصلة بسجالات سياسية حول إنشاء معامل الكهرباء التي يجب أن تنشأ «بالاستناد إلى خطط موضوعة من جمعيات وشركات دولية». فهل المشكلة تكمن حقاً في الخطط؟ وهل تنقص اللبنانيين معرفة خطط إنشاء معامل الكهرباء، أم في آليات الإنشاء والخصخصة المنوي القيام بها؟ لا يعترض الموقعون على الخصخصة، بل يشجعون على القيام بها.
ولا يكتفي الموقعون بذلك، بل يقترحون صرف قسم من موظفي القطاع العام (الإدارات والمؤسسات العامة)، على أن تقوم شركات دولية بمسح يؤدي إلى إنهاء عقودهم. بعبارة أخرى، يجب تحميل الموظفين أخطاء النظام الزبائني وإعادة الحياة إلى أسطورة أن التوظيف في القطاع العام هو سبب المشكلة، من دون أن يذكر الموقّعون أي كلمة عن الدين العام ومسبباته رغم أنه يأكل نصف الإيرادات الحكومية.
كيف يكافح الفساد عرابو وضع اليد على سوليدير والمستفيدون من الهندسات المالية والفوائد المرتفعة؟
المطلب الأخطر في ظل التطوّرات الأخيرة، هو ذلك الذي يأتي تحت بند «الإصلاح الجمركي». فهذا الإصلاح بالنسبة إلى هذه المجموعة يتعلق بالحدود والتهريب الذي يتم بين سوريا ولبنان. يقولون ما حرفيته: «نقترح أن يضمن صندوق النقد في شروطه المسبقة إنشاء لجنة لنشر الجيش اللبناني على المعابر غير الشرعية لوقف أو تقليص الخسائر الناتجة من تهريب السلع المدعومة إلى سوريا ودخول البضائع إلى لبنان من دون رسوم جمركية». هل ستصبح مهمة الجيش تحصيل الرسوم لاحقاً؟
وتمتدّ مطالبهم بتوسيع وصاية صندوق النقد على لبنان نحو «برنامج مساعدة الأكثر فقراً» لتوسيعه ودعم 300 ألف عائلة بـ«مراقبة دولية لصيقة». كذلك يطالبون بالوصاية على صندوق الضمان الاجتماعي عبر الآتي: أن يفرض صندوق النقد الدولي تعيين مجلس إدارة الضمان وخفض أعضائه.
سيرياستيبس - الأخبار اللبنانية
المصدر:
http://syriasteps.com/index.php?d=137&id=183085