قلب الصناعات الحديثة
عالم لايمكن أن يمضي بلا الليثيوم
سيرياستيبس :
حتى بداية التسعينيات، لم يكن الليثيوم ذا قيمة سوقية عالية، إذ كان الطلب
العالمي عليه محدوداً لقلّة التطبيقات الصناعية. أما اليوم، فلا يمكن أن
نحلم بشيء اسمه أجهزة ذكية من دون هذه المادة. لكنّ الأمر بدأ فعلاً في
السبعينيات مع اختراع أول بطارية ليثيوم. وقتها كان وجود هذا العنصر النشط،
عامل تفجير لهذه البطاريات. وفي عام 1985 جرى تطوير أول بطارية ليثيوم
آمنة. وفي عام 1991 أُنتجت أول بطارية هاتف من الليثيوم. مع الوقت بدأت
تزداد كفاءة الليثيوم واستُخدم لتوفير مجموعة خصائص: بطاريات آمنة، قابلة
للشحن بسرعة، خفيفة وصغيرة الحجم. من دون بطاريات الليثيوم لم يكن الهاتف
النقال ممكناً، ولا الشاشات المسطّحة، ولا كانت الطاقة الشمسية قابلة
للتخزين، وغير ذلك من مسلمات عالم اليوم. وبدأ الطلب على هذه البطاريات
يزداد سريعاً مع ثورة الطاقة "الخضراء"، والسيارات الكهربائية، فضلاً عن
أهميتها المتصاعدة في الطيران والصناعات العسكرية.
إنتاج لا يغطّي الطلب
في الواقع، تضاعفت كفاءة بطاريات الليثيوم
بين عامي 1991 و2005 عشر مرات. ومنذ ذلك الحين، يتصاعد سعر الليثيوم بوتيرة
شبه مستمرة. في عام 2020، وصل سعر طن نوعين من خامات الليثيوم إلى 7 آلاف
دولار. وفي العامين الماضيين، قفز سعرهما إلى 70 ألف دولار نظراً إلى
النموّ المتسارع لسوق السيارات الكهربائية بدرجة أولى (تحتوي السيارة
الكهربائية على 6 كيلوغرامات من الليثيوم بالمعدل)، إذ تضاعف إنتاج هذه
السيارات أربع مرات بين عامَي 2016 و2022. وبدرجة ثانية، إن ارتفاع السعر
يُعزى إلى تزايد الطلب على إنتاج أنظمة الطاقة الخضراء والأجهزة الذكية.
ويتوقع أن تشكل البطاريات المستعملة في كل ما سبق، نحو 95% من الطلب
العالمي على الليثيوم في عام 2030.
وصل حجم الطلب العالمي على مادة
الليثيوم في عام 2020 إلى نحو 300 ألف طن متري، بينما توقف العرض بأقل من
ثلث هذه الكمية. ويتوقع أن يصل الطلب الى ما يفوق عشرة أضعاف في عام 2030.
أما على صعيد الإنتاج، فإن جهوداً كبيرة تُبذل من أجل نموّ بنسبة 20%. وهي
غير كافية أيضاً لتغطية الطلب. وتُعدّ مناجم الليثيوم الأكثر حراجة في
سلسلة التوريد، إذ تحتاج المناجم إلى ما بين 3 سنوات و7 سنوات لتبدأ
بالإنتاج. ويُذكر أن هناك أبحاثاً مكثّفة للبحث عن بدائل تقلّص الاعتماد
على الليثيوم. إلا أن أغلبها، حتى اليوم، غير مجدٍ اقتصادياً للتصنيع
الكمّي.
ترتبط بطاريات الليثيوم بـ3 مكوّنات حرجة أخرى يمكنها هزّ أركان صناعة
بطاريات كل الأجهزة الحديثة، وهي الكوبالت (وهو الأغلى ثمناً لسعر الوحدة)،
ويتركّز إنتاجه في جمهورية الكونغو الديمقراطية، والنيكل العالي الجودة
الذي يتركّز إنتاجه في روسيا وأوكرانيا، بالإضافة إلى الغرافيت الذي تتسيّد
الصين عرش إنتاجه.
رقعة الصراع
بدأ الليثيوم يظهر
لاعباً جيوسياسياً منذ سنوات. فأول ما عدّله الرئيس الأرجنتيني ماكري في
موجة عودة اليمين للقاراة اللاتينية هو قانون التعدين. فألغى مفاعيل قرارات
تأميم الثروات المعدنية التي أصدرها سلفه الرئيسة كيرشنر. كذلك الأمر في
التشيلي، إذ سمحت القوانين الجديدة، للشركات الأجنبية، باستخراج الليثيوم
من دون أي التزامات أو منافع للدولة ولا حتى توظيف السكان المحليين. في
المقابل، صمدت بوليفيا بوجه حملات التشويه والسخرية الغربية لرغبتها
الصارمة بأن لا تنزف بوتوسي مجدداً. بمعنى أوضح، كان واضحاً أن عصر استخراج
المعادن ونهبها من قبل الأجنبي انتهى، فاشترطت بوليفيا نقل التكنولوجيا
التصنيعية إليها من أجل عقد شراكات استخراجية. هذا الطلب، وجده الغرب
دافعاً للانقلاب على الرئيس إيفو موراليس. بعدها بسنة، غرّد إيلون ماسك
حيال المسألة قائلاً: سننقلب حيث نشاء، تقبّلوا الأمر. فقد اعتبر ماسك نفسه
يداً خفية وراء الانقلاب، مدللاً على الأهمية الاستراتيجية لهذه المادة.
اليوم، بوليفيا مهدّدة بانقلاب جديد يبدو أكثر وحشية ظهرت إرهاصاته قبل
أيام على يد اليمين الانفصالي. وقد لا تكون هذه المحاولة الأميركية هي
الأخيرة.
الليثيوم الموجود في المثلّث اللاتيني الجنوبي (الأرجنتين وبوليفيا
وتشيلي)، هو الأفضل لناحية عملية الاستخراج، إذ إنه موجود على شكل محلول
ملحي لا يتطلب فصله عن باقي المكونات، إلا عمليات تجفيف بسيطة مقارنة
بالليثيوم الأسترالي الصخري المكلف جداً لناحية المعاجة. وهناك نوع ثالث من
خام الليثيوم اكتُشف أخيراً في المكسيك حيث تم تأكيد وجود أكبر احتياطي
عالمي منه، إلا أن مشكلته أنه يأتي على شكل خام طيني، وللآن لا توجد تقنية
استخراجية صناعية مجدية له. مع ذلك، إن الصينيين يمتلكون الريادة في هذه
التجارب، كما أنهم من القلّة التي تملك حقوق الاستخراج في بعض المناجم التي
سبقت قرار التأميم. قرار التأميم والتواجد الصيني في صناعة الليثيوم،
بالإضافة إلى موقع المكسيك القريب من أميركا والقرار الأميركي بوضع
الليثيوم على قائمة العناصر الحرجة، كل ذلك يجعل من المكسيك دولة معرّضة
للتدخلات والاضطرابات في المستقبل.
وعندما بنى إيلون ماسك، مصنع غيغا فاكتوري الأول في نيفادا، كمشروع ثوري
للسيارات الكهربائية التي تمثّل بديلاً بيئياً من السيارات العادية (بديل
من داخل السوق الحرّ والفردانية للتخفيف من التلوّث عوضاً عن حلول النقل
العام)، كان المشروع في جوهره محاولة أميركية جادّة لإعادة صناعة السيارات
الأميركية إلى مجدها، والإمساك بناصية التقنية، وضمان التفوق الصناعي
الأميركي. كل هذا كان في وجه الصين تحديداً. فقد دعمت الحكومة الأميركية
مشروع ماسك بالمليارات، وبشّر الرجل بأنه سيتفوق على الصين، لأن مصنعه كامل
الأتمتة، سيلغي أفضلية اليد العاملة الصينية. إنما الواقع جاء مخيّباً
للآمال بخسائر كبرى وفشل تصنيعي وسيارات متفجرة وتأخّر كبير في تسليم طلبات
السيارات. هكذا، وجد المليونير النجم، نفسه، في مأزق متعاظم، إلى أن مدّت
إليه الصين يدها، فتقبل الأمر الواقع وافتتح أول مصنع له في شنغهاي عام
2019، معلناً أنه قلّل من قيمة الإنسان.
بالنتيجة، أنشأت تسلا سبعة
مصانع في العالم. مصنع شنغهاي هو أنجحها وأسرعها نمواً بينما أفرع برلين
وتكساس التي أُغلقت أخيراً. وتسلا ليست المصنّع الغربي الوحيد المزدهر في
التربة الصينية الصناعية الخصبة، بل لحقت به فوكس فالغن، وبي أم دبليو،
وأصبح لكل منها 3 مصانع سيارات كهربائية في الصين من بين مصنّعين غربيين
آخرين يلحقون بالسرب. وما يزيد في قلق الغربيين هو صعود الشركات الصينية
الكثيرة المصنّعة لهذه السيارات منها شركة بي واي دي، التي قفزت من خارج
العشرة الأوائل، إلى المرتبة الثالثة في غضون عام واحد، كما أن صادرات
الصين من هذه السيارات إلى أوروبا هي في تصاعد حادّ قلب الموازين عام 2021
ورجحت كفة الصين التصديرية نحو القارة العجوز.
هكذا نجد كلاً من الأميركيين والأوروبيين والكنديين يرسمون خططاً وطنية
لتوطين سلاسل الإنتاج، ويرصدون المليارات بهدف إخراج الصين من السيطرة على
هذه السلاسل. فهم يصدرون مذكرات وقوانين دفاع وطني مرتبطة باستخراج ومعالجة
الليثيوم. وهذا هو السياق نفسه الذي دفع بكندا إلى طرد الشركات الصينية
المساهمة في شركات التعدين الكندية التي تستخرج الليثيوم تحديداً. ففي
الحرب الاقتصادية الدائرة اليوم بين الغرب والصين تحديداً تحاول أميركا
احتكار صناعات الرقائق، في مقابل ورقة الضغط الصينية التي تتمثّل بتركّز
إنتاج العناصر النادرة (Rare earth element) المحورية في الصناعات الذكية،
وعلى رأس هذه العناصر يأتي الليثيوم.
بروفايل كيميائيّ
الليثوم
هو أصغر المعادن، وأخفّها، وأقلّها كثافة. ترتيبه الثالث في الجدول الدوري
للكيمياء، ما يوفّر له إلكتروناً حرّ الحركة في المدار الخارجي. لذا، هو
عنصر نشِط كيميائياً. وهذه تحديداً، هي المواصفات التي جعلت منه نفطَ وملح
الثورة الصناعية الرابعة. فهو موصل جيد وفي ظروف خاصة يمكن أن يكون موصلاً
فائقاً.
المصدر:
http://syriasteps.com/index.php?d=110&id=193697