بقلم
المحامي: مأمون الطباع
أول ما يخطر على البال عند الاحتفال بدمشق (عاصمة للثقافة العربية ) أن
معظم الشباب والكهول من أبناء دمشق ، و من ولد فيها و عايش سكانها ، لا يعرفون عن
دمشق إلاّ شوارعها وأحياءها ومقاهيها ، و مطاعمها ، و أزمة السير ، و صعوبة
الإنتقال من شرقها إلى غربها و من جنوبها إلى شمالها ... لا يعرفون عن دمشق التاريخ و الحضارة و الثقافة ، إلاّ ما بقي في
ذاكرتهم من كتب التاريخ المدرسية ... فهي كما تعلموا عاصمة الدولة الأموية ، و
منها انطلقت المقاومة الوطنية لطرد الفرنجة من المنطقة العربية ، و بفضل صمودها وصمود
أبنائها كان الإستقلال و الجلاء، إلى أن
قامت الثورة عام 1963، حيث أصبحت دمشق ((
قلعةً للتحدي )) و أصبح من يطل عليها من قاسيون يراها (( تعانق الشُهبا ))، إلخ من
الجمل الإنشائية التي ربطت عزّ المدينة وذلّها بالموقف من الحكومات الموجودة فيها
... فكل من يريد امتداح الحكومة يمتدح دمشق و أهلها ، و نزار قباني و ألفت الإدلبي
و خليل مردم بك و غادة السمان و كوليت خوري ، و كل من يريد ذم الحكومة - أية حكومة
– يعتبر دمشق عاصمة للنفاق و التزلف و ( الذبذبة ) .
**** ** ****
لم تكن دمشق عاصمة لكل حكومات العرب لكنها كانت مركزاً مهماً للحضارة
العربية وحضارات الأقوام التي سبقت الفتح العربي لها ، و هي ( تُدمشِقُ ) من يقيم
فيها ، والدَمشَقةُ بالمعنى السائد ، هي الرقي بكل معانيه – حتى أصبحت (( الدمشَقَةُ
)) مصطلحاً عاماّ يقصد به كل انسانٍ حضاري السلوك و العطاء.
إن من يتابع مؤلفات المؤرخين الدمشقيين خلال القرون الخمسة الماضية ، مثل (
ابن طولون الدمشقي الصالحي ، و القلنسي و الغزي و البديري الحلاق ، و تقي الدين و
كرد علي والشطي الحنبلي ) يجد أن دمشق مدينة مفتوحة لكل طموح و عالم ، و أن تميُزها
كمدينة حضارية ناجمٌ عن قدرتها على استيعاب الآخرين ، و اقتباس أفضل ما لديهم من
ثقافة وعادات راقية ، و أقلمة الوافدين إليها و دمشقة أبنائهم و أحفادهم ، حتى صاروا دمشقيين أكثر من الدماشقة ، محبين
للعروبة متقنين لغة العرب.
**** ** ****
لقد استوعبت دمشق المماليك و الأتراك و الأكراد و الشراكسة و الألبان و
الأرمن والمغاربة، فانصهروا فيها ، و بقيت أسماء أحيائهم الأولى قائمة حتى الآن مثل
: ( حي الأكراد- الشركسية – حي المغاربة – سوق ساروجة – حي التركمان ) دليلاً على
رحابة هذه المدينة الخالدة ، التي عرّبت دون إكراه و دون خطط مسبقة كل من أختار
الإقامة فيها.
و من يستعرض أسماء العديد من العائلات الدمشقية يجد أن غالبيتها ينتسب إلى
مدنٍ عربية و غير عربية ... و كمثال على ذلك عائلات ( الصفدي – العكاوي – البغدادي
– الموصللي – الطنطاوي- المغربي – التونسي – الجزائري – المصري – الحجازي – الغزّي–
القدسي – الإستانبولي – الحلبي – الحمصي – الديري – الحموي – الأدلبي – المكّي –
دياربكرلي – الأنطاكي ) أو إلى قوميات غير عربية مثل ( الكردي – التركماني - الأفغاني – العجمي – الهندي – الداغستاني –
الألباني – جركس – الروماني ) . أمّا العائلات التي لا تنتسب إلى مدينة أو دولة أو
قومية معينة فقد انتسبت إلى شتى أنواع المهن التي مارسها الآباء و الأجداد مثل (
الحداد – النحاس – الطباع – الصواف – الكاتب – الشماع – الخياط – الحلاق – الصايغ –
الجُّوخي – الحايك – الحكيم – المنجد – القربي – الساعاتي – الحبوباتي - الغراوي – الإمام – المؤذن – الصباغ – النجار
– الكحال – الدباس – الوتار – العرقسوسي – الدباغ – الدهان – الخباز – العطار –
النويلاتي – الذهبي – البيطار – القباني – الزيات – الأستاذ – الفقيه ... الخ )
و هذا التنوع الغزير بالمهن يعطي فكرة عن عراقة دمشق و تفوقها الصناعي و
المهني واعتزاز أبنائها بمهن آبائهم و أجدادهم و ليس بأنسابهم و عشائرهم ، كما هو
الحال في معظم الدول العربية.
**** ** ****
حافظ أهل دمشق على التراث الثقافي و المعماري لكل الحضارات التي دخلت دمشق
فتحاً أو سلماً من آرامية و سريانية و فينيقية واغريقية و رومانية و مسيحية و
إسلامية و مملوكية وعثمانية وإفرنسية .... لم يهدموا صرحاً أنشأته إحدى هذه
الحضارات .... لم يهملوا عالماً أو أديباً أو داعيةً لم يكن من أبناء دمشق بل
قاموا بتكريمه و نشر أفكاره و مخطوطاته.
النتيجة:
كانت دمشق دوماً لمن يختار الإقامة فيها و يحبها ، فهي مدينة الحضارات ، تحتضن
النابغين من كل المدن و الدول و القوميات ، و تمنحهم هويتها ، مقابل عطائهم و حبهم
لها ، و أجمل ما في دمشق التاريخ ، أنها عرّبت الثقافات و الحضارات و اختصرت كل
اللغات بلغة واحدة هي العربية لذلك فهي بحق ( عاصمة للثقافة العربية ).
المصدر:
http://syriasteps.com/index.php?d=160&id=196