سيرياستيبس :
يواجه طموح السوريين بنسب نمو
معقولة عائقاً جوهرياً يتمثل في النهب الممنهج للموارد الاقتصادية، الذي
كان ولا يزال سبباً رئيسياً في تدني معدلات النمو لعقود. ولا يمكن الحديث
عن أي حل مستدام لمشكلة النمو دون حل جذري لهذه الظاهرة، إذ يشكل النهب
العقبة الكبرى أمام تحقيق تراكم استثماري فعال، وتحسين عائدية رأس المال،
ورفع معدلات التوظيف والإنتاجية.
النمو والنهب نقيضان لا يمكن أن
يجتمعا. يتطلب النمو الاقتصادي، الذي يُقاس بتطور الدخل الوطني وزيادة
الإنتاجية، استثمارات فعالة. لكن النهب يعمل على عرقلة هذه العملية من خلال
استنزاف الموارد التي يمكن أن تُخصص لتحفيز الاستثمار وزيادة الإنتاج.
ربما لا يعلم كثيرون أن عائدية رؤوس الأموال الموظفة في الاقتصاد السوري
كانت لا تتجاوز في كثير من الأحيان عتبة 20%، أي أن كل خمس ليرات تُستثمر
في الاقتصاد السوري لا تُنتج أكثر من ليرة واحدة كعائد، بسبب النهب وضعف
كفاءة رأس المال.
وفوق ذلك، يساهم النهب في تعميق الخلل في توزيع الدخل
الوطني. حيث أظهرت إفصاحات السلطة الساقطة في السنة الأخيرة من عمرها 2024
أن حصة أصحاب الأجور في سورية لا تتجاوز 9.2% من الناتج الإجمالي بينما تصل
حصة أصحاب الأرباح إلى 90.8%. لا تؤدي هذه الفجوة إلى تفاقم الفقر فقط، بل
وتُضعف أيضاً الطلب المحلي، مما يحدّ من إمكانيات النمو الاقتصادي على
المدى الطويل.
إذا كانت سورية تطمح إلى تحقيق معدلات نمو معقولة، فلا بد
من اتخاذ خطوات حاسمة للقضاء على النهب. حيث يجب أن تكون الأولوية لإعادة
بناء نظام اقتصادي قائم على العدالة الاجتماعية، تُخصص الموارد فيه لتلبية
احتياجات الناس لا الاستحواذ عليها من نخبة ضيقة.
رفع عائدية رأس المال
ومعدلات التراكم الوطني هما الشرطان الأساسيان لتعزيز الإنتاجية ورفع نسب
النمو. ولكن هذه الأهداف ستظل بعيدة المنال إذا لم يتم كبح النهب الذي
يستنزف الموارد ويحول دون استخدامها بفعالية.
وبناءً عليه، نكرر ما
قلناه على صفحات هذه الجريدة مراراً من أن حل مشكلة النمو في سورية ليس
مجرد قضية اقتصادية، بل هو معركة سياسية واجتماعية بالدرجة الأولى تتطلب
إرادة حقيقية وتعبئة شعبية واسعة لفرض الاتجاه المطلوب.
كلمة السر لتحقيق نمو اقتصادي
مستدام في سورية هي العائدية، التي تعكس قدرة الاستثمارات على تحقيق عوائد
كبيرة تتجاوز تكلفتها وتدفع عجلة التنمية. وكان تدني نسب العائدية في سورية
يمثل العقبة الأبرز أمام تحقيق النمو كما أسلفنا سابقاً. لكن رفع هذه
العائدية إلى مستويات أعلى بكثير، قد تصل إلى 100% أو أكثر، ليس أمراً
مستحيلاً إذا ما تم التركيز على استثمارات تستند إلى الميزات المطلقة التي
تتميز بها سورية، بدلاً من مجرد الاعتماد على الميزات النسبية التقليدية
التي أصبحت غير كافية.
الميزات النسبية، مثل المواد الخام كالنفط والقمح
والقطن، تعتمد على توافر الموارد الطبيعية، لكنها تتعرض لمنافسة شرسة في
الأسواق الدولية، ما يُبقي هوامش الربح محدودة للغاية. وقام النموذج
الاقتصادي السوري بشكل أساسي على هذه الميزات، حيث ركز على تصدير المواد
الخام بدلاً من تصنيعها، مما أدى إلى ضعف العائدية وفقدان الفرص لتحقيق
قيمة مضافة عالية محلياً.
على النقيض، فإن الميزات المطلقة هي تلك
الموارد أو المنتجات التي تنفرد بها سورية نتيجة ظروف جغرافية أو طبيعية
خاصة، مثل بعض المنتجات الزراعية الخاصة بسورية والنباتات الطبية النادرة
والأحجار الطبيعية... وغيرها. ويمكن لهذه الموارد أن تحقق عوائد ضخمة إذا
تم استغلالها بشكل صحيح، عبر إنشاء صناعات محلية تحولها إلى منتجات ذات
قيمة مضافة عالية تُنافس في الأسواق العالمية بأسعار مميزة. فبدلاً من
تصدير المواد السورية كمنتج خام، يمكن تحويلها إلى منتجات نهائية تُباع
بأضعاف السعر، مما يعزز العائدية ويوفر فرص عمل محلية.
تتطلب الاستفادة
من الميزات المطلقة تجاوز الوضع الاقتصادي الحالي وبناء نظام اقتصادي عادل
يضمن توزيع الموارد بما يخدم مصلحة الشعب السوري. فالنهب المنظم الذي
استنزف الموارد الوطنية لعقود كان العقبة الرئيسية أمام تحقيق التراكم
الاستثماري الضروري للنمو.
اقتصاد قائم على استثمار الميزات المطلقة إلى
الحد الأقصى محلياً لا يحقق فقط عائدية عالية، بل يعزز السيادة الاقتصادية
لسورية ويقلل التبعية للخارج. بدلاً من استنساخ نماذج اقتصادية تعتمد على
تصدير المواد الخام، تحتاج سورية إلى استراتيجية تقوم على تطوير الصناعات
المرتبطة بميزاتها الفريدة. وهذه الرؤية ليست مجرد خيار اقتصادي، بل هي
ضرورة وطنية تمثل الحل الأمثل لتحقيق الاستقرار والنمو.
قاسيون
المصدر:
http://syriasteps.com/index.php?d=131&id=200919