بنك إنجلترا يخفض الفائدة وسط انقسامات حادة
07/08/2025




سيرياستيبس 
كتب الاعلامي غالب درويش 

قرر بنك إنجلترا المركزي اليوم الخميس خفض أسعار الفائدة إلى أدنى مستوى لها منذ أكثر من عامين، في خطوة تعكس التوجه العالمي للبنوك المركزية نحو سياسات نقدية تيسيرية بهدف مواجهة شبح الركود الاقتصادي.

هل كان خفضاً متوقعاً؟
وتفصيلاً أعلن البنك خفض سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس إلى أربعة في المئة بعد أن كانت 4.25 في المئة، ليكون هذا هو الخفض السابع منذ يوليو (تموز) 2024، مما يؤكد دخول المملكة المتحدة مرحلة جديدة من التيسير النقدي، وسط تباطؤ النمو الاقتصادي وتراجع بعض مؤشرات التضخم، مما دفع البنك المركزي لاتخاذ إجراءات لدعم الاقتصاد.

ويهدف القرار إلى تخفيف الضغوط على سوق العمل بعد تراجع أعداد الموظفين لأشهر متتالية وفقدان أكثر من 180 ألف وظيفة أخيراً نتيجة ضغوط مالية وضريبية، مما يشير إلى تراجع النشاط الاقتصادي واستنزاف القوة الشرائية للأسر.

كيف حدث الانقسام الحاد؟
لكن في المقابل شهد اتخاذ القرار انقساماً حاداً داخل لجنة السياسة النقدية مع استمرار التضخم فوق المستوى المستهدف، مما يعزز حال الحذر التي تسيطر على مسار السياسة النقدية البريطانية، وعلى رغم توافق القرار مع توقعات الأسواق فإن دلالاته تتجاوز حدود الاقتصاد البريطاني ليعكس هذا التحرك إعادة تشكيل السياسة النقدية العالمية، مع تأثيرات محتملة في أسواق العملات والذهب، فضلاً عن زيادة الضغوط على مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي قبيل اجتماعه المرتقب في سبتمبر (أيلول) المقبل.

جولتان للمرة الأولى
وهذه هي المرة الأولى التي تجرى فيها جولتان من التصويت منذ أول اجتماع للجنة السياسة النقدية عام 1998 بعدما منحها المستشار حينها غوردون براون الاستقلال عن الحكومة، وقال بنك إنجلترا إن بيان الربيع الذي قدمته وزيرة الخزانة رايتشل ريفز في مارس (آذار) الماضي إضافة إلى زيادة مقدارها 25 مليار جنيه إسترليني (33.5 مليار دولار) في مساهمات التأمين الوطني التي يدفعها أصحاب العمل، سيقيدان الاقتصاد "بشدة خلال العام المقبل"، مضيفاً أن "التضخم سيتلقى دفعة نتيجة زيادة هذه المساهمات ورفع الحد الأدنى للأجور 6.7 في المئة، مما سيؤدي إلى تسارع أسعار المواد الغذائية"، ووصف محافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي خفض الفائدة بأنه "قرار متوازن بدقة"، مشيراً إلى أن أي خفوض إضافية في أسعار الفائدة "يجب أن تجرى بصورة تدرجية وحذرة".

هل سيرتفع التضخم في بريطانيا؟
وتوقع البنك المركزي البريطاني أن يرتفع معدل التضخم إلى أربعة في المئة بحلول سبتمبر المقبل مقارنة بمعدله الحالي البالغ 3.6 في المئة، محذراً من وجود أخطار متزايدة لتكرار موجات ارتفاع الأسعار خلال الأعوام المقبلة، وقال بنك إنجلترا إن الارتفاع المتوقع في التضخم خلال الأجل القريب سيعزى بصورة أساس إلى زيادة أسعار الغذاء والطاقة وارتفاع فواتير الخدمات المنزلية ويكلف البنك الحفاظ على معدل تضخم عند اثنين في المئة، وهو هدف لم يتحقق منذ صيف العام الماضي.

ويستخدم معدل التضخم الشهر المقبل لتحديد مستويات المزايا الاجتماعية وإجراء التعديلات على نظام "الضمان الثلاثي" لمعاشات التقاعد، وقد حذر بنك إنجلترا من أن التضخم قد يشهد موجة جديدة ما يعيد للأذهان أزمة ارتفاع الأسعار خلال عامي 2022 و2023 عندما بلغ معدل كلفة المعيشة أعلى مستوياته منذ أربعة عقود مسجلاً 11.1 في المئة، نتيجة الارتفاع الحاد في أسعار السلع الأساس.

وأشار البنك إلى أن الاقتصاد البريطاني سيحقق نمواً بـ 1.25 في المئة هذا العام في تعديل طفيف صاعد لتوقعاته السابقة الصادرة في مايو (أيار) الماضي، على أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي 1.25 في المئة عام 2026 و1.5 في المئة بحلول عام 2027.

وتوقع البنك أن يبلغ معدل البطالة ذروته عند 4.9 في المئة ارتفاعاً من المستوى الحالي البالغ 4.7 في المئة، وهو الأعلى منذ أربعة أعوام.

هل سيتعرض الاقتصادي البريطاني لضربة جراء رسوم ترمب؟
وقال بنك إنجلترا إن عودة التقلبات الشديدة في الأسواق المالية، كما حدث عقب إعلان ترمب عن "يوم التحرير" وفرض رسوم جمركية متبادلة، قد تؤدي إلى خسارة إضافية تقدر بـ 0.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في بريطانيا، مرجحاً أن تؤدي إعادة توجيه السلع التي كانت معدة أصلاً للأسواق الأميركية نحو السوق البريطانية إلى تخفيف بعض الضغوط التضخمية في حال لجأت دول مصدرة إلى تعديل مسارات تجارتها نحو المملكة المتحدة.

وحذر مسؤولو البنك من أن الاقتصاد سيتعرض لضربة تبلغ نسبتها 0.2 في المئة على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة نتيجة الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، على رغم توصل رئيس الوزراء كير ستارمر إلى اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة في مايو الماضي.

واعتبر أعضاء لجنة السياسة النقدية في بنك إنجلترا الذين صوتوا لمصلحة خفض بمقدار ربع نقطة مئوية، وبينهم المحافظ أندرو بيلي، أن التقدم في كبح التضخم خلال الأشهر الماضية كاف لتبرير الخفض بهدف مواجهة ارتفاع معدلات البطالة وتزايد تسريح الموظفين وضعف الإنفاق الاستهلاكي.

أما العضو الخارجي في اللجنة آلان تايلور الذي أيد في البداية خفضاً أكبر بمقدار نصف نقطة مئوية قبل أن يعدل موقفه في الجولة الثانية من التصويت، فعبر عن مخاوف من زيادة خطر الركود مما يستدعي تسريع وتيرة التيسير النقدي.

وفي المقابل فإن أربعة من أعضاء اللجنة وبينهم كبير الاقتصاديين في البنك هوو بيل صوتوا لمصلحة الإبقاء على سعر الفائدة عند 4.25 في المئة، محذرين من أن الشركات والعمال دخلوا في حلقة من المطالبات المرتفعة بالأجور ورفع الأسعار، معتبرين أنه من السابق لأوانه دعم مزيد من الخفض قبل التأكد من تراجع مستدام في التضخم، وشدد البنك على أن "السياسة النقدية ليست على مسار محدد سلفاً".

ماهي التأثيرات العالمية؟
إلى ذلك قال محللون في حديث إلى "اندبندنت عربية" إن خفض بنك إنجلترا سعر الفائدة ليس مجرد قرار محلي بل مؤشر إلى تحول واسع في المشهد الاقتصادي العالمي، موضحين أن هذه الخطوة قد نجد مثلها من الفيدرالي الأميركي خلال سبتمبر المقبل، خصوصاً إذا استمرت البيانات الاقتصادية الأميركية في إظهار مؤشرات سلبية، ومضيفين أن القرار قد يؤدي إلى إضعاف الجنيه الإسترليني على المدى المتوسط، خصوصاً إذا أشار بنك إنجلترا إلى استعداده لمزيد من الخفض، ولفتوا إلى أن الذهب قد يجد دعماً قوياً في ظل استمرار السياسات التيسيرية لكن مكاسبه تبقى مشروطة بموقف الدولار الأميركي الذي يحتفظ بقوته بفضل تردد الاحتياط الفيدرالي في خفض الفائدة.

هل تتجه البلاد نحو ركود تضخمي؟
بدوره أوضح رئيس قسم الأبحاث لدى "إيكويتي غروب" في لندن رائد الخضر أن "هذا التباين ما بين الحاجة إلى تحفيز النمو والمخاوف من عودة التضخم يعيد للواجهة سيناريو الركود التضخمي الذي كثيراً ما شكل كابوساً لصناع القرار"، مؤكداً أن أثر الخفض سيمتد على المدى القصير إلى تحفيز الاقتراض الشخصي والعقاري مع ضعف إضافي للجنيه الاسترليني، مما قد يفيد الصادرات لكنه يزيد كلفة الواردات.

وبين الخضر أن الأسواق ترجح خفضاً إضافياً خلال الاجتماع المقبل، لكن المسار الأرجح سيكون بطيئاً ومتزناً حفاظاً على صدقية البنك وتفادياً لتقلبات عنيفة، مشيراً إلى أن أي تسرع في التيسير النقدي من دون قراءة دقيقة لمؤشرات التوظيف والأسعار قد تكون كلفته عالية، ولا سيما في اقتصاد مثل المملكة المتحدة يواجه ضغوطاً هيكلية تتعلق بالإنتاجية وضعف الاستثمار بعد الـ "بريكست".

مرحلة ممتدة ولكن؟

بدورها قالت كبيرة محللي أسواق المال في مجموعة "إكس أس" العالمية رانيا جول إن "خفض بنك إنجلترا لسعر الفائدة يحمل أبعاداً تتجاوز السياسة النقدية المحلية ويشير إلى دخول الاقتصاد البريطاني في مرحلة تيسير ممتدة"، موضحة أن "هذا التحرك يأتي نتيجة ضغوط النمو الاقتصادي المتدني وتباطؤ التضخم اللذين فشلت السياسات السابقة في معالجتهما بصورة فعالة"، ومضيفة أن توقيت القرار يكتسب أهمية كبيرة في ظل الترابط بين البنوك المركزية الكبرى، وخصوصاً مع الترقب لقرارات الاحتياط الفيدرالي خلال اجتماعه المقبل.

وأشارت جول إلى أن تزايد وتيرة خفض الفائدة في اقتصادات كبرى مثل المملكة المتحدة يضع ضغوطاً غير مباشرة على الاحتياط الفيدرالي، ولا سيما مع ظهور إشارات ضعف داخل سوق العمل الأميركية وتصاعد الأصوات داخل الإدارة الأميركية المطالبة بتيسير نقدي داعم للنمو، تزامناً مع تعيين رئيس جديد لمجلس الاحتياط الفيدرالي بقرار من الرئيس ترمب.

ومع ذلك أوضحت جول أن "الفيدرالي الأميركي" لا يزال متردداً، إذ تعكس تصريحات أعضائه قلقاً من التضخم أكثر من الحماسة لخفض الفائدة، مؤكدة أن هذه المفارقة تمنح الدولار الأميركي تفوقاً نسبياً على المدى القصير، مدعوماً بمكانته كعملة ملاذ آمن، لكنها تضع الأسواق في حال ترقب بانتظار اتضاح السياسة النقدية الأميركية خلال الأسابيع المقبلة.

وفي ما يتعلق بالأسواق أشارت جول إلى أن الجنيه الإسترليني قد يواجه ضغوطاً متزايدة، ليس فقط بسبب القرار نفسه بل بسبب النبرة المصاحبة لبنك إنجلترا، مؤكدة أن إشارات البنك إلى دورة تيسير أعمق قد تدفع المستثمرين إلى التخارج من العملة البريطانية، ولافتة إلى أنه في المقابل قد يستفيد الذهب من التوجهات التيسيرية العالمية لكن مكاسبه تظل مرهونة بقوة الدولار المدعومة بتردد "الاحتياط الفيدرالي".

دعم النمو أم مسايرة التضخم؟
من جهته قال رئيس أبحاث السوق في شركة "OW Markets" عاصم منصور إن "خفض الفائدة إلى أربعة في المئة على رغم استمرار التضخم فوق الهدف يعكس ميل بنك إنجلترا التدرجي نحو دعم النمو من دون التخلي تماماً عن مكافحة التضخم"، مشيراً إلى أن القرار جاء بغالبية ضئيلة (5-4) مما يكشف عن انقسام داخلي في لجنة السياسة النقدية حول توقيت التيسير.

وأضاف منصور أنه على رغم ارتفاع التضخم إلى 3.5 في المئة مع توقعات ببلوغه أربعة في المئة خلال سبتمبر المقبل، فإن البنك يراهن على أن هذه الزيادة موقتة ولن تعرقل المسار النزولي للتضخم، مؤكداً أن هذا التحرك يمثل بداية تحول محسوب في السياسة النقدية قد يفتح الباب أمام مزيد من الخفض قبل نهاية عام 2025، بخاصة مع تباطؤ نمو الأجور وظهور بوادر ركود في الاقتصاد البريطاني.

ومع دخول العالم دورة جديدة من خفض الفائدة مدفوعة بمخاوف من ركود اقتصادي أوسع، تعود الأسواق لحال من الضبابية الإستراتيجية، فقرارات بنك إنجلترا وما قد يتبعها من تحركات "الفيدرالي الأميركي" ستظل محور ترقب عالمي، إذ ستحدد هذه التحولات مسار الاقتصاد العالمي خلال الأشهر المقبلة.

من جانبه قال المحلل صالح طربيه إن الانقسام عند تصويت أعضاء لجنة السوق المفتوحة اليوم على قرار خفض الفائدة، علاوة على إعادة التصويت للمرة الثانية، يعد ضربة قاسية للمستهلك والشركات، موضحاً أن "التوقعات كانت تتجه في غالبيتها حول الإبقاء  على معدل الفائدة من دون تغيير".

اندبندنت عربية 



المصدر:
http://syriasteps.com/index.php?d=126&id=202548

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc