شهدت مناطق واسعة من سورية موسماً جديداً من الجفاف الحاد، ما يهدّد القطاع الزراعي الذي يشكل مصدر رزق رئيسياً لملايين السكان ويعمّق الأزمة المعيشية التي تعصف بالبلاد منذ سنوات. ومع تراجع الهطولات المطرية وتقلص المساحات المزروعة، يجد الفلاحون أنفسهم هذا الموسم أيضاً أمام خسائر متتالية وتأثيرات اقتصادية واجتماعية طويلة قد تطاول الأمن الغذائي ومستوى الأسعار. ففي القرى الممتدّة بين ريف حماة وإدلب وحلب، تتكرّر مشاهد الأراضي المتشققة والحقول التي لم تسق منذ أسابيع. ورغم محاولات بعض المزارعين الاعتماد على الآبار الارتوازية، فإنّ الانخفاض الكبير في منسوب المياه وارتفاع تكلفة تشغيل المضخات جعلا الخيارات محدودة وفرص الإنتاج شبه معدومة، ليبقى مشهد الحقول العطشى شاهداً على أزمة تتعمّق، وتضع الزراعة السورية أمام مستقبل مجهول.
الأسوأ منذ عقدين
وقال رائد حمدو، مزارع من ريف حماة الغربي، إنّ الموسم الحالي هو الأسوأ منذ نحو عقدين، وأضاف لـ"العربي الجديد" أن معظم المزارعين دخلوا موسم الزراعة بآمال معلقة على تحسّن الهطولات المطرية، لكن الواقع جاء مخيباً؛ إذ لم تشهد المنطقة سوى أمطار محدودة منذ بداية الشتاء، ما أدى إلى يباس المحاصيل في مراحلها الأولى وفشل البذار في الترسخ في التربة. وأوضح حمدو أن الجفاف ضرب الحقول في وقت مبكر هذا العام، تاركاً البذار (التي دفعت أثمانها الباهظة) تذهب هدراً من دون أي مردود، ولم يعد كثير من المزارعين قادرين على تأمين الحد الأدنى من احتياجات أسرهم، في ظل غياب الإنتاج وارتفاع تكاليف الري.
ووفق حمدو، فإنّ عدداً كبيراً من فلاحي المنطقة اضطروا إلى التخلي عن زراعة مساحات واسعة من أراضيهم، بسبب عدم القدرة على ريها أو تحمل تكاليف تشغيل مضخات المياه، مع استمرار الارتفاع الكبير في أسعار المازوت رغم انخفاضه الطفيف مؤخراً، ولفت إلى أن اللجوء إلى الآبار لم يعد حلاً عملياً، بعدما انخفض منسوب المياه وازدادت ساعات تشغيل المولدات، ما جعل تكاليف الري تفوق قيمة المحصول المتوقع بكثير.
ضربة مزدوجة
وفي ريف حلب، تحدثت المزارعة سناء شواش عن تأثيرات الجفاف التي لم تقتصر على الحقول، بل امتدت لتضرب تفاصيل الحياة اليومية للأسر الريفية، وقالت إن معظم العائلات في المنطقة تعتمد مباشرةً على ما تنتجه الأرض، وأي خلل في الموسم الزراعي ينعكس فوراً على دخل الأسرة ومعيشتها، وأضافت لـ"العربي الجديد" أن أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي هي الفترة التي يفترض أن تبدأ فيها المحاصيل البعلية (كالقمح والشعير) بإظهار بوادر النمو بعد أول الهطولات المطرية، إلّا أنّ غياب الأمطار هذا العام جعل الأراضي خالية تماماً من البادرة الخضراء التي ينتظرها الفلاحون عادة لطمأنة أنفسهم على الموسم.
ولفتت شواش إلى أن تراجع الأمطار لم يضرب المحاصيل وحدها، بل طاول أيضاً الثروة الحيوانية التي تعتمد كثيراً على الأعلاف الطبيعية، وانخفضت أعداد المواشي لدى العديد من الأسر نتيجة نقص العلف والمياه وارتفاع أسعار البدائل المتوفرة في الأسواق، موضحة أن تكاليف تربية الأغنام والأبقار أصبحت أعلى بكثير من مردودها، وهو أمر لم تعتد عليه العائلات الريفية التي كانت تعتمد على المواشي دخلاً ثابتاً يساند الموسم الزراعي. كما لفتت شواش إلى أن موجة الجفاف دفعت بعض العائلات إلى نقل قطعانها إلى مناطق أبعد، بحثاً عن مراعٍ أفضل، ما زاد الأعباء المادية واللوجستية على المزارعين. وقالت إنّ الوضع الحالي بات يهدد نمط الحياة الريفية بالكامل، إذ لم يعد بالإمكان تغطية نفقات الزراعة والرعي، بخاصة مع تتابع المواسم الجافة وعدم وجود مؤشرات على تحسّن قريب.
تغيير الخريطة الزراعية
وبينما يترقب الفلاحون سقوط المطر، يرى الخبراء أن الحلول تتطلب خططاً استراتيجية طويلة الأمد، تشمل إدارة أفضل للموارد المائية ودعم المزارعين بالبذار والأسمدة والمحروقات. وفي السياق، أكّد الخبير الاقتصادي حسام العبد الله أن تأثير الجفاف على الزراعة في سورية سيقود إلى ارتفاع إضافي في أسعار المواد الأساسية (بخاصة القمح والخضار) نتيجة انخفاض الإنتاج المحلي وازدياد الاعتماد على الاستيراد.
وقال لـ"العربي الجديد": "الأزمة ليست ظرفية، بل مرشحة للاستمرار. وتراجع الإنتاج يعني ارتفاع التكاليف على الحكومة والمستهلك معاً، فضلاً عن زيادة معدلات البطالة في المناطق الريفية. لذا؛ نحن أمام تدهور واضح في الأمن الغذائي، بخاصة أن الزراعة تمثل العمود الفقري للاقتصاد السوري. وحذر العبد الله من أنّ استمرار الجفاف لعام آخر قد يؤدي إلى تغيير الخريطة الزراعية بالكامل، بخاصة مع انتقال المزارعين إلى محاصيل أقل استهلاكاً للمياه أو ترك الزراعة نهائياً، ما سيحدث فجوة كبيرة في السوق ويخلق ضغوطاً اجتماعية.
العربي الجديد