لا تزال الصحافة الاقتصادية في سورية بلا هويَّة، وبلا أيّ أساسٍ تصنيفي تُمكّنُ المؤسسات الصحفية العامة والخاصة، من الركون إلى أنها تستطيع انتخاب مجموعة من الصحفيين المختصّين بالإعلام الاقتصادي ليكونوا قادرين على القيام بهذه المهمة الشاقة والشائكة، التي تقتضي الكثير من الصبر والدقة.
فمع احترامي لجميع الزملاء الصحفيين في الأقسام والدوائر الاقتصادية في الصحف والمجلات، فإنَّ الكثيرين منهم لا يستطيعُ أن يُفرّقَ الآن بين الميزانيّة والموازنة، ولا بين سوق المال وسوق الأوراق المالية، ولا بين الضريبة والرسم، أو بين عقد النفقة والعقد بالتراضي ، ومن الصعب عليهم ملاحظة الرباط الوثيق بين البطالة والتضخم، وقد استفاد الفريق الاقتصادي – على سبيل المثال – من ضحالة صحافتنا الاقتصادية، من خلال قدرته على تمرير برامج الخصخصة التي يطبقها على الأرض، وهو يُروّج ويحلفُ الأيمان بأن توجّهاته بعيدة كل البعد عن الخصخصة، وهي مُستبعدة استبعاداً كليّاً، وهذا كله في الوقت الذي يطبق فيه الفريق الاقتصادي برامج واستراتيجيّات خصخصة مدروسة ومُتقنة، فالخصخصة ليست فقط بيع القطاع العام إلى الخاص، فهذا البيع هو نمط من عدّة أنماط، صحيح أننا ابتعدنا عن البيع ولكننا لجأنا إلى أنماطٍ أخرى، كنمط استثمار القطاع الخاص للقطاع العام، وهذا ما جرى في مصنع ورق دير الزور، وفي شركة إسمنت طرطوس، على سبيل المثال، فضلاً عن العديد من الشركات الصناعية العامة الأخرى التي تصطفُّ على الدور لتواجه هذا المصير، والواقع فإنني لا أُعلنُ استعدائي لما يجري إطلاقاً بل على العكس، لأنَّ ما يجري جدير بالمؤازرة والتأييد، فهو على الأقل يقود مثل تلك الشركات الفاشلة إلى مرحلة العمل بكفاءةٍ اقتصادية، ولكن هذا الذي يجري هو خصخصة، سواءٌ راق للفريق الاقتصادي أم لم يرُقْ، والحق هنا بطبيعة الحال ليس على الصحفيين الاقتصاديين في عدم تصدّيهم لمناورات الفريق الاقتصادي في هذا الإطار، أكثر مما هو على الجوّ العام، وعلى البيئة التي تعيش فيها الصحافة الاقتصادية السورية، إذ لا توجد جديّة في صقل المعلومات والتدريب عليها ووضع الأمور في مواضعها، وهم متروكون هكذا على التجلي، كل واحدٍ حسب اجتهاده واهتماماته، وعلى الأغلب تكون هناك اهتمامات دون أي اجتهاد، كما لا يوجد فرز موضوعي على أساس مهني، و ( الموديل ) الذي وصلنا إليه، هو أنَّنا لا نستغرب ولا نجد أي غضاضة في أن يُنقلَ عاملٌ في الأرشيف ليتولّى مهامه في دائرة الاقتصاد، أو حتى عامل استعلامات، أو أي زميل في قسم آخر، لمجرّد أن يبدي رغبته ويُلحّ، فالجميع يشعرون بالمقدرة لأن يكونوا صحفيين اقتصاديين، والواقع فإنَّ الحق معهم لأنهم فعلاً يمتلكون المقدرة ذاتها التي يمتلكها غيرهم، باعتبار أنَّ أحداً من الصحفيين الاقتصاديين وبما فيهم أنا، لا يعرف كيف صار صحفياً اقتصادياً، إذ لم نتلقَّ يوماً درساً واحداً حول كيفيّة التعاطي مع هذا النمط من الصحافة المُعقدّة، ولم أعرف طعماً للصحافة الاقتصادية على حقيقتها إلا عندما شاءت الأقدار وتمَّ إيفادي عوضاً عن زميلٍ آخر في عام 1992 إلى صحيفة الأهرام في القاهرة، حيثُ خضعتُ لدورة مكثَّفة في الإعلام الاقتصادي، كانت قد اتفقت على إقامتها كلٌ من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومجلة الأهرام الاقتصادي الأسبوعية، المنبثقة عن الأهرام الأم، ورغم أنَّ هذه الدورة كانت أقل من شهر، فقد شعرتُ أنها نقلتني إلى عالمٍ آخر، وأدركتُ مدى تخلّفنا بالعناية بمثل هذه الدورات ذات العيار الثقيل، ولكن المضحك أنني ذهبتُ إلى هناك في غمار عمليات الخصخصة التي شهدتها جمهورية مصر العربية، وتحرير سعر الصرف، وإرهاصات تعويم الجنيه، وكانت سوق الأوراق المالية ( البورصة ) لا تزال حديثة العهد، غير أنَّ إقامة المدن الصناعية للمستثمرين كانت في أوجها، وفي مدينة السادس من أكتوبر الصناعية – الشيء بالشيء يُذكر – تفاجأنا نحنُ الذين كنّا نخضع لهذه الدورة، حيثُ كان من كل بلد عربي صحفي واحد، وكلنا تحت العناية المباشرة للدكتور عصام رفعت رئيس تحرير مجلة الأهرام الاقتصادي، تفاجأنا بسيارات شرطة ليست كالسيارات المعتادة رافقت الحافلة التي تقلّنا من مختلف الاتجاهات بمجرّد دخولنا من الباب الرئيسي لمدينة السادس من أكتوبر، وبقيت ترافقنا إلى منشأة المسؤول الأكبر في تلك المدينة وكان هذا المسؤول هو رجل الأعمال المصري المعروف الملياردير ( محمد فريد خميس ) رئيس مجلس إدارة شركة ( النساجون الشرقيون ) وصاحب عدد كبير من المشروعات في مصر، وتفاجأتُ إثر وصولنا إلى منشأة فريد خميس بوجود عناصر شرطة آخرين، اصطفوا على الجانبين تحيةً لنا ووقفوا بحالة استعدادٍ أنيقة، وكانوا يرتدون لباساً جميلاً ليس كلباس الشرطة المصرية التي تقبعُ في أعماقنا، ولم أستطع إلا أن أسأل الصديق العزيز الدكتور عصام رفعتْ عن هذه الظاهرة، فضحك عصام وقال لي : هذه هي الخصخصة يا علي، فقد اجتاحت كل شيء في مصر حتى الشرطة، أجل لقد صار هناك شركات خاصة للشرطة، ولم تعد هذه المسألة مرتبطة بوزارة الدّاخلية فقط،، فهناك شركات شرطة يمكن لأي شخص أن يستأجر عناصر منها لتُعينَهُ في المناسبات الهامة كمثل هكذا استقبال مثلاً، أو أي مناسبة أخرى لقاء أجورٍ مُتَّفقٍ عليها.
وعبثاً حاولتُ في هذه الدورة أن ( أُغيّر من مسارات مصر ) فلم أستطع، كانوا في كل يوم يحقنوننا بجرعاتٍ جديدة عن ثقافة الخصخصة، وكنتُ في العديد من المرات أقولُ في مداخلاتي : لو تصبرون قليلاً على القطاع العام، وتعطونه المرونة والصلاحيات قبل أنْ تُجهزوا عليه هكذا، فكان الجواب المتكرر الذي أتاني من الدكتور عصام ومن العديد من المحاضرين: لقد أعيانا القطاع العام، إذ لم ندع حيلة إلا وحاولنا تطبيقها عليه ولكن عبثاً، ولم يعد أمامنا إلا هذه الخصخصة، لأنها هي الحل الوحيد للوصول إلى الكفاءة الاقتصادية.
كنتُ أُناقشُ في مصر وأنا مُقتنعٌ بما يحصل، غير أنَّ تربيتنا القومية والاشتراكية لم تكن تسمح لنا بالاستسلام لمثل هذه الجائحة الجديدة، في الوقت الذي أقنعونا فيه أنَّ ( القطاع العام هو الرائد ) وهو الذي يقود الاقتصاد، ولا اقتصاد من بعده ..!
وما أن عدتُ إلى دمشق من تلك الدورة ( الانقلابية ) حتى بدأتُ شيئاً فشيئاً أطرحُ بعض القضايا الجديدة بحذرٍ شديد ، الخصخصة ، سوق الأوراق المالية ، تحرير سعر الصرف، وإلى ما هنالك.
كان تحرير سعر الصرف عندنا من المُحرّمات، وكان الحديثُ عن ذلك من المُحرمات أيضاً،فالحديثُ عن الدولار مأزق خطير، لأنَّ الدولار عندنا كان عجيباً غريباً، فهو في سعر أسواق الدول المجاورة لا يساوي سوى خمسين ليرة، سواء كان في أسواق تلك الدول يساوي ستين أو سبعين أو أربعين، فسعره عندنا خمسين يعني خمسين، هذا في الشكل العام، أما في التفاصيل فهناك العديد من الأسعار التي كانت مُعتمدة للدولار، كان هنالك سعر رسمي ، وسعر طيران ، وسعر سياحي، وسعرُ قطع التصدير وأسعار أخرى عديدة، أما سوق الأوراق المالية فكانت مجرّد مثار للسخرية، والخصخصة لم تكن ثقافتها قد وصلت إلى سورية بعد.
لن أستفيضَ أكثر من ذلك في تفاصيل الأثر المهني العميق الذي تركته تلك الدورة الأهرامية في أعماقي، ولكن أعودُ للسؤال : ما الذي يمنعنا من إقامة هكذا دورات هنا في سورية للمحررين الاقتصاديين ..؟ في الحقيقة لاشيء سوى الخنوع وعدم الاهتمام، فهكذا الوضع جيد، لا أحد يفهم على أحد، وكل صحفي يمكن أن يكون صحفياً اقتصادياً بالمقاييس السورية ..!
وبالعودة إلى بداية الحديث فإنَّ الصحافة الاقتصادية تقتضي فعلاً الكثير من الصبر والدقّة، والصبر مطلوب من خلال أنَّ الصحفي الاقتصادي ينغمسُ يومياً بالحديث عن الأعمال وصفقاتٍ بالملايين والمليارات في الوقت الذي لا يجد الصحفي في الأحوال العادية ما يكفيه من المؤونة المالية إلى آخر الشهر، أما الدقّة فهي مطلوبة من خلال أنَّ الصحفي الاقتصادي لابدَّ وأنْ يتعامل مع الرقم الأصم، الذي عليه أنْ يضعه أمامه ويُحلّله ويبني عليه، ويجعله ناطقاً ضاحكاً أو باكياً، مُفسراً لمعالمه وثناياهُ وزواياه، ومختلف جوانبه.
الصحفي الاقتصادي الحقيقي لا يزالُ في سورية مفقوداً إلى حد كبير، ولذلك ومن خلال مجلة المال المحترمة، فإننا ندعو إلى ضرورة تأسيس رابطة للصحفيين الاقتصاديين، يكون من أهمّ مهامها تخريج صحفيين اقتصاديين على أسسٍ واضحة ومعايير دقيقة، كي يخجلَ الواحدُ منّا من قبول إطلاق سمة الصحفي الاقتصادي عليه دون أن يكونَ مُجتازاً لامتحانٍ حقيقي قاسٍ ومهني يمرُّ عبر تلك الرابطة.
علي محمود جديد
مجلة المال
المصدر:
http://syriasteps.com/index.php?d=160&id=301