منذ بدء روسيا «مسار أستانا» لحلّ الأزمة السورية عام 2017، ركّزت في خطّتها على الطُرق الدولية كبوّابة للحل، أوّلاً للاستفادة من موقع سوريا الجغرافي الذي يحقّق مصالح اقتصادية متبادلة مع دول الجوار، وثانياً لِما لهذه الطُرق من أهمّية بالغة في تسريع وتيرة التعافي من الحرب. وإذ جرى البدء بتطبيق ذلك المخطّط عبر «اتّفاقية الجنوب» (2018) التي أعادت فتْح الطُرق الرئيسة مع الأردن، إثر سيطرة الحكومة السورية على الشريط الحدودي بما فيه من معابر، أبرزها «نصيب - جابر»، بالإضافة إلى استعادة مدينة البوكمال الحدودية مع العراق، وتشغيل الممرّ الأبرز الذي يربط بين البلدَين، فإن ما يُعمل عليه حالياً أيضاً عبر مسار التقارب السوري - التركي، يتركّز بشكل رئيس على فتْح المعابر الحدودية والطُرق الدولية، في حين تصبّ واشنطن اهتمامها على عرقلة أيّ خطّة من هذا النوع


في وقت تستعدّ سوريا لإعادة تفعيل جزء من طريق «M4» المقطوع بين حلب واللاذقية، تطبيقاً لـ«اتفاقية سوتشي» المُوقَّعة بينها وبين تركيا عام 2019 وملحقاتها لعام 2020، تُعيد الخطوات التركية والسورية على سبيل التقارب بين البلدَين بوساطة روسية، مسألة الطُرق الرئيسة إلى الواجهة مجدّداً، لِمَا لِهذه الطُرق من دور بارز في ذلك المسار، كونها تمثّل إحدى أهمّ المصالح المشتركة. قبل اندلاع الحرب، شكّلت سوريا طريق عبور هامّاً للبضائع التركية نحو الأردن ودول الخليج، عبر معابر عدّة أهمّها باب الهوى، الذي يمثّل أيضاً بالنسبة لدمشق بوّابة سريعة لوصول البضائع إلى الأسواق الأوروبية، إلى جانب المكاسب الكبيرة التي تجنيها الحكومة السورية من رسوم الترانزيت. وتُفيد مصادر سورية شبه رسمية بأن أكثر من 150 ألف شاحنة تركية دخلت إلى سوريا العام 2010، معظمها عبَرتها وخرجت عبر معبر نصيب الحدودي مع الأردن، ومنه إلى دول الخليج، في حين عبَرت نحو 4 آلاف شاحنة سورية نحو تركيا، معظمها توجّهت إلى دول أوروبية.


ويلعب طريقا «M4» و«M5» دوراً بارزاً في خريطة الطُرق الدولية السورية؛ حيث يمتّد الأوّل من معبر اليعربية مع العراق مروراً بالرقة وحلب وصولاً إلى اللاذقية، فيما ينطلق الثاني من حلب مروراً بدمشق وصولاً إلى باب الهوى في ريف إدلب، حيث يتقاطع مع «M4» في مدينة سراقب. وفي أعقاب توقيع تركيا وروسيا اتّفاقية تقضي بفتح الطريقَين المقطوعَين في ريف إدلب، ومع تأخُّر أنقرة في الوفاء بتعهّداتها، شنّ الجيش السوري هجوماً على مواقع تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة)، وتمكَّن في عام 2020 من فتْح «M5» إثر مواجهات مع الجيش التركي حاول خلالها الأخير منْع تَقدّم القوّات السورية، وأدّت إلى مقتل عدد من الجنود الأتراك، في وقت قصفت طائرات سورية موقعاً تتمركز فيه قوّات تركية قرب قرية بليون في ريف إدلب. ودفعت كلّ تلك التطوّرات الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى زيارة موسكو، ليوقّع على اتّفاق يوقف تقدُّم القوّات السورية مقابل تعهّدات بفتح «M4»، الأمر الذي تأخَّر تنفيذه نحو ثلاثة أعوام، قبل أن يتحوّل إلى بوّابة للتقارب بين دمشق وأنقرة.
ويمثّل فتْح الجزء الغربي من الطريق تحدّياً لتركيا، التي تواجه هذه الأيام محاولة تخريب متعمّد لمسار تقاربها مع سوريا من قِبَل «هيئة تحرير الشام». إذ ترى الأخيرة في الانفتاح بوّابة لإنهاء وجودها؛ ولذا، تشنّ فصائل تابعة لها هجمات متتالية على مواقع سيطرة الجيش السوري في مناطق «خفْض التصعيد»، من دون الاقتراب من محاور الطريق، الذي ذكرت مصادر معارِضة أن «الهيئة» تعهّدت قبل فترة بتنفيذ «اتّفاقية سوتشي» بخصوصه، والابتعاد عنه مسافة 6 كيلومترات في حال قرّرت أنقرة تنفيذ الاتّفاقية. وترى تركيا أنه يمكن تطبيق «سوتشي» عبر آلية عمل ثُلاثية سورية - تركية - روسية، تقوم ابتداءً على مراقبة الطريق، قبل تسليمه لاحقاً تبعاً لتطورات الحلّ السياسي، وهو مقترح يبدو أنه لم يقنع دمشق، التي تريد خريطة زمنية واضحة لانسحاب القوّات التركية، فيما من المنتظر أن يناقش الطرفان هذه المسألة خلال اجتماع بين وزيرَي دفاعهما في موسكو في شباط المقبل، وفق ما أعلنت أنقرة، التي أكدت في وقت سابق أنها مستعدّة للانسحاب من الشمال السوري.

وبالإضافة إلى اعتنائها بالجزء الغربي من طريق «M4» (الذي يصل حلب باللاذقية، وتسيطر دمشق على معظمه، باستثناء جيْبٍ يقع تحت هيمنة فصائل تابعة لـ«هيئة تحرير الشام» تحت إشراف تركي)، أبدت أنقرة اهتماماً بالغاً بالجزء الشرقي من الطريق، والذي تسيطر دمشق على بعضه، في حين تتحكّم «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد) بدعم أميركي بمعظمه، وصولاً إلى معبر اليعربية المغلَق مع العراق. وتجلّى هذا الاهتمام بوضوح خلال محاولة شنّ هجمات للسيطرة على مناطق تطلّ على الجزء الشرقي، من بينها مدينة منبج، التي تمثّل نقطة اتصال استراتيجية تصل مجموعة فروع بـ«M4»، وتشكّل بالنسبة لـ«قسد» مركزاً تجارياً يتمّ من خلاله تهريب البضائع نحو المناطق التي تسيطر عليها الفصائل التابعة لتركيا في الشمال السوري.
وخلال محادثات عديدة بين موسكو و«قسد»، والمحادثات الأخيرة بين دمشق وأنقرة، نوقشت مسألة إعادة فتْح الطريق كاملاً، والتي تتطلّب عودة سيطرة الحكومة على معبر اليعربية لإعادة الشرعية إليه، بالإضافة إلى تأمين الطريق في جزئه الشرقي، وفتْحه في جزئه الغربي. على أن واشنطن تسعى إلى عرقلة أيّ تسوية من هذا النوع، عبر تحرّكات ميدانية وسياسية عديدة، تحاول من خلالها منْع أيّ تغيير في خريطة السيطرة، كما في إحياء فصائل عربية مُوازية لـ«قسد» الكردية في الرقة وريف دير الزور، يؤمَل أن تشكّل حاجزاً أمام أيّ هجوم تركي بذريعة محاربة الأكراد. وإلى جانب ذلك، تعمل واشنطن على إعادة نشْر قوّاتها في نقاط كانت قد انسحبت منها خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بينها قواعد تشرف على الطريق، الأمر الذي من شأنه أن يعرقل إمكانية فتْح جزئه الشرقي ما لم تَخرج القوّات الأميركية منه (هو أمر تسعى كلّ من أنقرة و موسكو ودمشق وطهران لتحقيقه)، أو على الأقلّ تنسحب من محيطه أو تُوافق على فتْحه، في ما يمثّل ورقة تتمسّك بها واشنطن بحزم.