إبراهيم الزلمة
22/08/2007



كانت الحصة المدرسية قد أوشكت على نهايتها عندما ارتأت المعلمة الحسناء أن تسبر أغوار طفولتنا بذلك السؤال المبتذل الذي يذكر كل واحد منا بخيبة أحلامه (ماذا تريدون أن تصبحوا في المستقبل يا أولاد؟).

في ذلك اليوم ضاقت غرفة الصف الصغيرة بأحلام كبيرة لأولئك السذج الذين لبدوا سماء ذلك اليوم الشتوي الملامح بسحائب صيف.

أملت الأحلام لسذاجتنا فراحت الأمنيات تترى كمن فتحت له كوة السماء في ليلة القدر.

البعض قال بأنه يريد أن يصبح دكتوراً وآخرون قالوا بأنهم يفضلون الهندسة أما أولئك الذين ماتت طفولتهم قبل أن تولد، كانوا أكثر واقعية فاختاروا أن يصبحوا سائقين أو حرفيين أو عمالاً في مصنع.

كان لا يزال يغط في ذهوله عندما استدارت العينان الساحرتان إلى ذلك الركن المهمل من الصف حيث جلس يحاول أن يستشعر ما يجري حوله، وأنت يا إبراهيم ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟ فانتبه وكأنما قد جاءه السؤال على حين غرة.

غير أنه استجمع قواه وبدا واثقاً على غير عادته ثم أجاب باقتضاب بعد أن لمعت عيناه: (زلمة).

انفجر الصف ضاحكاً وتعالى الهمس الجانبي في أرجاء الغرفة، أما المعلمة الرقيقة فقد اكتفت بابتسامة عطف زينت وجهها الملائكي كأنما خشيت أن تنوش الرجل الطفل بشواظ ضحكة جهدت كي تخفيها ثم تقدمت من ذلك المسكون بعنفوانه وطبعت قبلة على خدّه الأيسر وبصوت يضارع هبوب النسيم رقة همست في سباته: إن شاء الله يا إبراهيم تحقق حلمك.

قبلة صغيرة رفعت إبراهيم من درك السخرية إلى علياء المحسودين فالمجد الذي بوأه إياه خفق غفلته لم يستقم للكثير من المجتهدين الذين استشعروا غمرات الفتنة منذ أن أطلت عليهم تلك الآنسة الغارقة في جاذبيتها ذات شتاء بعيد قريب.

أما إبراهيم فلم يعن الأمر له شيئاً كان يترقب بعجالة جرس الفسحة ليلتهم بنهم الكادحين (السندويتشات) الثلاث المخصصات له في كل فسحة سائراً من غير أن يعي خطواته الأولى في سبيل تحقيق حلمه.

لكن غبطة الآخرين له لم تمنعهم من إبرام اللقب الذي يليق بتلك الزلّة، فطويت كنيته وديعة للنسيان وراح على مر السنين لقب (إبراهيم الزلمة) ملازماً لحضوره وغيابه.

مرت الأيام سريعاً ولم يبق من ذلك الصف سوى بقية للذكرى، يلتف حولها من تجمعهم صدفة عابرة تهيج فيهم الحنين لأيام غابرة طواها الزمن دون أن يطمس تلك الابتسامة العذبة التي غدت عنواناً لقصة إبراهيم الزلمة.

وبالسرعة التي كبرنا بها تبخّرت أحلامنا وسار كل واحد منا في طريق بعيد بعيد عما رسمه في ذلك اليوم الشتوي من عمر طفولتنا فمن تخرّج من الجامعة انتظر سنيناً قبل أن يحصل على عمل ومن وقف عند حدود الثانوية العامة ضرب في الأرض بحثاً عن عمل هنا أو هناك والكثيرون تزوجوا لأنهم أدركوا أن الأيام القادمة لن تغيّر من واقعهم شيئاً بل ربما يكون الزواج هو التغيير المراهن عليه.

أما إبراهيم فقد حدّثنا الرفاق أنه وبعد أن تجاوز الصف السادس الابتدائي بجهد جهيد وبتعاطف من الكادر التدريسي الذي شعر بأن ميزان التعليم في البلد لن يختل إذا ما حصل إبراهيم على هذه الشهادة، فقد أقبلت الدنيا عليه بعد أن تطوّع في الجمارك فصارت أموره على أحسن حال وأنه أقام بيتاً ضخماً على أرض واسعة اشتراها وأنه اقتنى سيارتين فارهتين وأجَّر إحداهما واستبقى الأخرى لخدمته وعلاوة على ذلك فإن رصيده في البنوك قد تجاوز الملايين.

لا أدري لماذا كنت أجد رابطاً قوياً بين أمنية إبراهيم في أن يصبح (زلمة) وبين واقع الحال الذي أفضى إليه، شعرت للحظات ولّت مسرعة أنه الوحيد بيننا الذي حقق أمنيته ولو بالمعنى الفيزيولوجي للكلمة وأننا عندما ضحكنا عليه كان الأجدر بنا أن نضحك على أنفسنا فبمعزل عن سمو الأمنيات كان الوحيد الذي لم يشطح به الخيال الجامح الذي سار بنا إلى بيداء من الضياع لا أفق لها، وعندما التقيته بعد خمسة عشر عاماً من اجتماعنا الأخير لم يكن قد تغير كثيراً بقي ذلك (الزّلمة) الذي يلتهم ثلاث سندويشات دفعة واحدة وإن كان حاله الجديد قد رسم على ملامحه البقية الباقية من العبثية التي كانت مخبأة وراء نقاب فقره.

كان إبراهيم عياً بطبعه لا يحسن من الحديث إلا الكلمات الموجزة التي بالكاد تجعلك تشعر أنك تحدث أحدهم لكنه في هذه المرة كان محدثاً لا يشق له غبار فلم يفته أن يذكرنا بأن من جد وجد ومن سار على الدرب وصل وأن الخير متاح للجميع وعلينا أن نسعى إليه لا أن يسعى إلينا غامزاً من قناة الرفاق.

ذكرني إبراهيم عندها بالكثير من المسؤولين الذي يوجهون لنا يومياً دعوة للسعادة والمحبة متغنين بالمجتمع وأواصر الترابط بين أفراده وشرائحه مذكرين في الوقت نفسه بالجهود الجبارة التي يبذلونها في سبيل الرخاء وتكافؤ الفرص بين الجميع لقد أتقن إبراهيم اللغة ولا نشك أن ضعيفي اللغة ينتظرون بصبر عظيم أن تفتح لهم (الدورات) التي تخرّج منها إبراهيم ليطوّروا لغتهم أكثر وأكثر. مسكين أنت يا وطني فلكل من أبنائك وطنه الذي يحلم به. تعددت الأوطان والمنفى واحد، وعلى مقربة من منفانا بنى الآخرون وطنهم.

كان إبراهيم متحمساً جداً لدعوتنا إلى منزله ربما باغته الحنين إلى رفاق الدراسة فأراد أن يعود بالزمن القهقرى إلى الوراء وربما لأنه أراد أن يتفاخر بالمجد الذي بناه لكن الذي لا شك فيه أنه أراد أن يؤكد لنا أنه الوحيد بيننا الذي حقق حلمه وأن ذلك الثراء الفاحش الذي يعيشه هو المعيار الحقيقي للزلومية.

في ذلك المساء حلمت بصفنا الصغير وتذكرت معلمتنا الحسناء التي لم أفكر يوماً ومنذ أن فارقت الصبا في البحث عنها أو حتى السؤال عن أخبارها ربما لأنني خشيت أن يكون الزمن قد ترك آثاره على ذلك الوجه الملائكي الباسم لم أكن أريد لتلك الصورة أن تتغير كانت عنواناً لماضٍ جميل مازلت أعيش إرهاصاته. شعرت بالغيرة وأنا أتذكر بحسرة تلك القبلة التي طبعتها معلمتنا على خدّ إبراهيم كنت مازلت أومن بأنني أولى بها وأن رومانسية الحلم الذي رسمته ذات شتاء بعيد قريب حقيقة بأن تلقى من معلمتي لفتة قريبة من القبلة. لكنها تجاوزت رغبتي الطفولية المكبوتة.

بينما كان صوتها الدافئ ينساب إلى سكينتي عبر الأثير إلى حيث انقطعت بي الذكريات: (ماذا تريدون أن تصبحوا في المستقبل يا أولاد؟!).

 

 

 

بورصات وأسواق

محمد عيد

 



المصدر:
http://syriasteps.com/index.php?d=160&id=181

Copyright © 2006 Syria Steps, All rights reserved - Powered by Platinum Inc