..
كتب الاعلامي أسعد عبود : لم يكن باستطاعتنا أن نحدد موقع الشمس في رحلتها اليومية .. ولا
لون أشعتها … الغيوم مطبقة على قبة السماء و المطر يهطل مدراراً .. بغزارة و
دون توقف … منذ نزلنا من السيارة عند مخفر الحصان و اتجهنا إلى القرية .. و
لم يبق في ما نرتديه خيط واحد غير مبتل .. طول الطريق الذي مشيناه في هذه
الجبال الصامتة … يصل نحو خمسة كيلو مترات ، و قد دخلنا القرية .. أمامنا
ينتصب بيت أحمد صالح و هو يبعد عن بيتنا أقل من كيلومتر واحد.. لكن أهوال
المطر الذي لا يتوقف و ما يرافقه من برق و رعود .. و التعب الذي اعترانا في
ذاك المسير القسري .. جعلنا نقصد هذا البيت المنفرد أول الضيعة لندفأ و
نهرب من المطر .. و كانت فكرة خاطئة !! نحن وصلنا “جبلة ” متأخرين ..و قد غادرت بوسطة الضيعة و لم يعد من عربة
توصلنا .. و النوم في جبلة شبه مستحيل .. ثم أنا الخارج للتو من الطفولة
بعمر 13 سنة ..مشتاق لأهلي .. فلم أزر بيتنا منذ بدأ العام الدراسي .. و قد
بدأ متأخراً ذاك العام !! حيث وقع الانقلاب الذي فصل عرا الوحدة بين سورية
و مصر و أسقط دولة الجمهورية العربية المتحدة في 28 أيلول 1961 و فتحت
المدارس في 4 تشرين الثاني .. و كان قد اختير لي و كنت في الصف التاسع حيث
شهادة الدراسة الإعدادية أن أذهب مع أخي محمد رحمه إلى المدرسة الخاصة التي
يدرس فيها بقرية ” كنسبا ” .. بعيدة جداً .. لكنها توفر على أبي قسط
المدرسة .. كان المشي هو أول سلاح احتياطي للتنقل و الانتقال .. رغم رخص أجور النقل
بالسيارات و البوسطات و الباصات .. كانت تنكة البنزين بسبع ليرات … و تنكة
المازوت بليرتين و نصف ..و أجرة الراكب على المقاطع الرئيسية التي توصل
بين المدن الصغيرة و مركز المحافظة .. وبين القرى و مراكز الأقضية .. نحو
نصف ليرة للبوسطات و الباصات .. وليرة للسيارات الصغيرة .. و خمس ليرات و
ربع الليرة بين جبلة و دمشق .. كل شيء رخيص و متوفر .. لكن كانت أيام فقر .. ذاك الرخص و الوفرة كانا
الداعم الأساسي للناس في حياتهم .. و كانت حياة صعبة ناضل الناس طويلاً
للخروج منها .. لذلك تراهم اليوم ترعبهم الحالة التي تذكرهم بظروف الماضي .. ولا يجدون
طريقاً لمقاومة هذا الدفع و الدفش المستمرين لهم باتجاه تلك الحياة .. حيث
يضطر الواحد منا للتنقل ماشياً لحل أمور حياته ..فقد توسعت المسافات و خرج
الزمن من إمكانية أن يمضي بالحياة سيراً على الأقدام … فهل ترانا سائرين
بذاك الاتجاه .. ولا وفرة ولا شيء رخيص ..؟؟!!
|